لأول مرة، ظهر ايران الى الحائط. أي حركة غير محسوبة، ستقلب الطاولة عليها وليس لصالحها. أكثر من ذلك، لأول مرة أيضاً تبدو إيران محشورة بالوقت، لا تستطيع أن تلعب عليه، لكي تتلاعب بخصمها المفاوض. وضع الرئيس الأميركي باراك أوباما سقفاً لفترة التفاوض لا يمكن اختراقه، يؤكد انه قرار بسيط لكنه فعال، لأنه يجبر الايرانيين على وضع أوراقهم على الطاولة، ويحقق الوحدة والتضامن في الموقف الدولي، ويحمّل الايرانيين مسؤولية الفشل اذا جاء ردهم سلبياً والمشاركة في النجاح اذا كان ايجابياً.
بين المسؤولية القانونية والواقعية
يستطيع الايرانيون التراجع عن مسودة الاتفاق الذي أعلنه الدكتور محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية.
[ قانونياً، لا مشكلة في التراجع عن الموافقة، لأن المقدم مسودة مشروع وليس مشروعاً نهائياً. المسودة تسمح بالأخذ والرد والمناقشة وتقديم طلبات بالتوضيح أوالتعديل، بعكس المشروع النهائي.
[ سياسيا التراجع الايراني يشكل مشكلة للنظام الايراني، لأنه يضيف نقطة سوداء عليهم بكل ما يتعلق بأي اتفاقات مستقبلية. أصلاً الثقة غير موجودة بين طهران وعواصم الخمسة زائد واحد، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، فكيف اذا ما أضيف الى ذلك تراجع مهم وحساس مثل هذا التراجع اذا صار رسمياً؟
طهران أجّلت ردها، خلافاً لما كان متوقعاً، لتدرس جيداً مسودة المشروع، علماً أن درسه وتمحيصه استهلك الكثير من الوقت طوال المئة يوم الماضية، وربما أكثر، وان مسألة تخصيب الأورانيوم في موسكو أو مع كونسورتيوم يشكل خصيصاً لذلك فإن طهران هي التي طرحته. فما الذي دفع النظام الايراني الى الإقدام على هذه الخطوة التي أظهرت نوعاً من الخفة في مواقفها والأخطر انقساماً داخلياً حول القرار النهائي في الملف النووي الذي وحده يحوز حتى الآن على اجماع قومي ايراني؟
الاحتمالات متعددة والسيناريوات عديدة، جميعها ملونة بشكل أو بآخر بالنقاشات السريعة والعلنية من داخل النظام وليس من خارجه.
جوهر الموقف الايراني المعارض للمسودة يقوم على أن تسليم كامل الكمية المخصبة من الأورانيوم بنسبة 5,6 في المئة الى موسكو لرفع درجة تخصيبها الى حوال 20 في المئة بالتعاون مع فرنسا، مرفوض لأنه يشكل خطأ أساسياً وحتى استراتيجياً بحق ايران ومشروعها الشرعي في حيازة القوة النووية السلمية خصوصاً بكل ما يتعلق بتشغيل مفاعلها النووي.
السيناريو الأول ناتج عن الصورة الخاصة التي كونها العالم وتحديداً واشنطن وباقي عواصم الخمسة زائد واحد، ان ايران تجد دائماً الثغرة التي يمكن عبرها التمديد لنفسها وكسر حلقة الوقت بالوقت لإنجاح مشاريعها ووضع المفاوضين الغربيين أمام الواقع الجديد الذي طوى صفحة الماضي. وهي عبر مفاوضات استمرت ثلاث سنوات مع الترويكا الأوروبية من الفرنسيين والألمان والبريطانيين، فرضت كما أكدت المفاوضات قبولهم مع واشنطن بالبدء في التفاوض من شرعية حقها بالتخصيب ولو كان محدوداً ومحدداً.
حصيلة مثل هذا السيناريو، ان ما يجري في طهران من نقاشات تظهر خلافات عميقة ليست أكثر من توزيع أدوار، الهدف منها ابلاغ الدول المفاوضة خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية انها عندما تعلن قبولها بالمشروع الحل تكون قد قدمت تنازلاً كبيراً جداً وبالتالي تستحق ان تأخذ مقابله ثمناً أكبر وتحديداً تنازلات أميركية أكبر لدى التفاوض على حزمة الملفات الاقليمية والدور الاقليمي للجمهورية الاسلامية في ايران.
مع الافتراض بأن هذه السيناريو هو الصحيح، فإن نهايته موافقة ايران على المشروع الخارج من المسودة التي قدمها البرادعي، وهو يؤدي الى وضع التخصيب الايراني تحت اشراف دولي شفاف وبهذا تصبح حرية الحركة الايرانية في هذا المجال محدودة جدا.
سيناريوان
السيناريو الثاني، ان الشرخ الذي تشكل مع بداية الانتفاضة الخضراء في 13 حزيران الماضي غداة اعلان نتائج الانتخابات الرئاسية وفوز أحمدي نجاد ورفض المعارضة هذا الفوز، لم يعد محصوراً في المجال السياسي والاجتماعي، اذ انه تمدد باتجاه ملف قومي اجتماعي مثل الملف النووي.
الخلافات داخل دائرة النظام معروفة وهي تبلورت بوضوح طوال الأيام المئة التي تلت انتخاب أحمدي نجاد رئيساً للجمهورية، ومن ذلك ان المحافظين الذين كانوا يطلق عليهم المتشددين في مواجهة الاصلاحيين أصبحوا ثلاث كتل هي: المحافظون المتشددون، الذين يقولون لنجاد نعم ولكن، والنجاديون الذين يبصمون على كل ما يقوله أحمدي نجاد والواقعيون وعلى رأسهم علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الذي يرفض سياسة نجاد و نهجه لكنه يلعب لعبة السلطة بدقة تحت بند الالتزام بالعمل تحت عباءة الولي الفقيه.
ردود الفعل على الموقف من مشروع المسودة تؤكد ان الشرخ وصل بكل ما يتعلق حول نهج التعامل مع الملف النووي الى داخل دائرة النظام، وان الخلافات ليست ناتجة عن توزيع أدوار، بل تظهير للواقع القائم. أصل الخلاف رفض تسليم كامل الكمية المخصبة وهي 1200 كلغ دفعة واحدة الى موسكو حتى ولو منح هذا التسليم للايرانيين حق التخصيب بنسبة تتيح لهم استعادة الكمية المسلّمة في خلال 18 شهراً على اساس انتاج 80 كلغ كل شهر واستعادة الكمية المسلمة لموسكو بعد 18 شهراً وقد رفع تخصيبها من حوالى خمسة في المئة الى نحو عشرين في المئة.
المعترضون يرون في هذه المسودة تسليماً وحتى رضوخاً للدول الخمسة زائد واحد وتحديداً واشنطن، فالعملية تفرغ المخازن الايرانية لمدة 18 شهراً، ولذلك فالعملية مرفوضة، فالقرار الايراني المتفق عليه داخلياً هو التسليم التدريجي، أي تراجع عن هذا القرار يشكل خسارة استراتيجية ناتجة عن ضعف المفاوض الايراني الاساسي وهو أحمدي نجاد. ولا شك ان اعلان الجنرال محسن رضائي رفضه تحت هذا البند لقبول ايران بالمسودة ضربة قوية للوفد الايراني المفاوض الذي يشرف عليه الرئيس أحمدي نجاد ليس لانه خصمه في الانتخابات الرئاسية وانما بصفته العسكرية فهو سبق وان قاد الحرس وتولى الوزارة لفترة تصل الى أكثر من عقد من الزمن. كلامه كعسكري خبير له وزنه في القرار. أما معارضة نائب رئيس المجلس فهي تؤكد المعارضة السياسية داخل المشروع، والتي يلعبها علي لاريجاني الذي قاد المفاوضات مع الترويكا الأوروبية ونجح في تمديد الوقت تحت السيف المصلت بالحرب للرئيس الأميركي السابق جورج بوش. وهو بهذا يقول لنجاد لقد نجحت تحت التهديد بالحرب حتى أصبحت صعبة وحتى مستحيلة وانت فشلت في وقت يمد الرئيس الأميركي أوباما يده اليك للاتفاق على حل يحول دون الحرب أو المقاطعة.
النظام وحفظ ماء الوجه
دقة الوضع ظاهرة جداً أمام الأعين الايرانية، القبول مشكلة والرفض مشكلة أكبر. اذا قبل النظام فإن على أحمدي بن نجاد مواجهة المعترضين على ادارته للمفاوضات من داخل النظام الذي يستند اليه، في وقت المعارضة الاصلاحية ما زالت موجودة وتعمل على توسيع مساحة وجودها الشعبي، وهذا الفشل سيمنحها مصداقية أكبر في مواجهة نجاد والنجاديين. مهما يكن جواب طهران فإن الملف النووي الايراني أصبح ملاحقاً ومتابعاً من قوى محافظة قوية رافضة الى جانب القوى الاصلاحية.
أما اذا رفض النظام الايراني المسودة وطالب بإعادة فتح المفاوضات حولها في مرحلة لا يمكنه فيها اللعب على الوقت، فإنه سيجد نفسه امام اختيار صعب جداً، أبرز مفاعيله العودة من الوكالة الدولية للطاقة النووية الى مجلس الأمن. مشكلة طهران انها في هذه الحالة لن تستطيع الاعتماد على موقف روسي معارض. الاجماع الدولي الموزع بين مخمس للعقوبات مثل فرنسا والقابل بها على مضض ومثل موسكو والصامت عنها مجبراً مثل الصين، يصبح قائماً بطريقة أو أخرى.
الكرة في الملعب الايراني. والقرار يعود الى الولي الفقيه آية الله علي خامنئي، وهو قرار صعب في جميع الأحوال، لأنه يتعلق بمصير ومستقبل ايران في حالتي القبول أو الرفض، وهو سيكون في الواجهة يتحمل توابع قراره التي ستضعه أمام المساءلة للمرة الثانية بعد الانتخابات الرئاسية. الأخطر، ان اتخاد القرار، يأتي في مرحلة يقول فيها المرشد ان التفجيرات خصوصاً الأخير منه جاءت نتيجة تدخلات خارجية.
باختصار ان الجمهورية الاسلامية في ايران تواجه مؤامرة ضدها، فكيف ستحصّن نفسها ضد هذه المؤامرة بمواجهة شاملة بعود الثقاب النووي أم بالاعتدال والواقعية؟. وهل يكون الحل الواقعي بالتوصل الى اتفاق بتقسيم كمية الأورانيوم الى كميتين لكن يتم تسليمها دائماً قبل نهاية العام الحالي، فيحفظ بذلك النظام الايراني ماء وجهه؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.