ربما الصدفة والحظ وحدهما حالا دون انطلاق الصواريخ الخمسة دفعة واحدة من حولا إلى مستوطنة كريات شمونة، فبقيت الرسالة قصيرة ووافية، والرد الإسرائيلي محدودا وكافيا. وربما أيضاً شاء التخطيط المسبق والتنفيذ الدقيق هو الذي أنهى العملية الصاروخية كما انتهت، واحد في السماء وأربعة على الأرض. الرسالة وصلت بذلك مزدوجة. الصاروخ الأول أبلغ امكانية العمل ضد إسرائيل رغم وجود الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل وانتشارهما، والأربعة التي بقيت على الأرض، رسالة إضافية تثبت القدرة الميدانية على القيام بعمليات حقيقية وليس مجرّد عمليات للتذكير الصوتي بالوجود والانتشار والتنفيذ.
حالة انتظار متوثبة
اللعب بنار الصواريخ في الجنوب ليس جديداً، فقد سبق أن وقعت عمليات عديدة طوال الاشهر الماضية. وقد أحسن الجميع من مسؤولين لبنانيين وقوى لبنانية فاعلة وفلسطينيين مسؤولين وناشطين، في التعامل بهدوء مع كل عمليات اللعب في منطقة من الخطر اللعب فيها، لأن أكثر من برميل بارود جاهز لإشعال الجنوب والمنطقة كلها معه. لذلك كله يجب التعامل مع هذه العملية بكثير من الحذر والانتباه، خصوصاً وأنها تأتي في مرحلة تبدو كل الآفاق فيها مسدودة ولا يمكن فتح كوة فيها إلا من خلال انفجار كبير.
ما يؤكد ذلك انّ كل القوى الاقليمية وحتى الدولية تبدو وكأنها في حالة انتظار على حافة الهاوية. هذا الانتظار ليس تسليماً بما يحصل وسيحصل، وإنما هو انتظار متوثب لاتخاذ مواقف نهائية تبعاً لتشكل المتغيرات في ثوابت مفصلة واضحة يمكن لكل طرف البناء عليها. مَن من القوى مهما كانت محدودة أو عظمى لا تنتظر ماذا سينتج عن امتحان الملف النووي بين الولايات المتحدة الاميركية والجمهورية الإسلامية في إيران؟
أسئلة كبيرة جداً مطروحة حول طبيعة المواقف التي ستتشكل والتحالفات أو حتى الطلاقات التي ستتبلور. لن يبقى الحال على حاله بالنسبة لكل الدول والقوى. من الصعب حالياً الجزم حول صورة العلاقة بين دمشق وطهران في حال الانزلاق نحو مفاوضات جدّية وهادفة حول حزمة كبيرة من الملفات في المنطقة، وبين طهران وحزب الله ودمشق، وأنقرة ودمشق وطهران، وواشنطن ودمشق وطهران وتل أبيب، وكل هذه العواصم وغيرها من القوى، التي هي جزء من البازار المتداخل والمعروض. أما إذا حصل الانهيار الكبير، فلا شيء يضمن شيئاً، لا من جهة ضبط العلاقات على حافة الهاوية ولا في حجم المواجهات والانفجارات.
في الوقت نفسه، فإنّ قوى التطرف وهي كثيرة خصوصاً الأصولية الإسلامية منها والإسرائيلية المتدينة والمتشددة منها على السواء، ترى انها معنية أكثر من غيرها بكل ما يجري. أي انزلاق نحو المفاوضات والحل يضعها مستقبلاً تحت السكين. نتيجة المفاوضات ستكون على حسابها مهما كانت صورة الحل النهائي. لذلك فإنّ صبّ الزيت على النار الكامنة جزء من مصالحها الحيوية والاستراتيجية. اشتعال الجبهة، أي جبهة، يصبّ في خانتها مهما بلغت الخسائر. في النهاية وفي مثل هكذا صراع لا يهم هذه القوى المتطرفة حجم الخسائر الضخمة التي ستقع مقابل النتائج المحدودة. ليس مطلوباً بالنسبة لها أن تكون تكلفة الصمود وليس النصر أكبر بكثير منه. كلما ارتفعت الخسائر، سواء البشرية أو الاقتصادية، كلما ارتفع منسوب الحقد والانتقام في الشرائح الشعبية، التي تشكل الخزان الطبيعي والاستراتيجي لروافد المقاتلين والانتحاريين.
بوضح أكثر، تريد بعض القوى الأصولية تفجير الوضع في لبنان وفلسطين وجرّ الجميع إلى دائرة المواجهة بعيداً عن طاولة المفاوضات والحوار. الطريقة المثلى هي في القيام بعمليات استباقية والتفافية لا يمكن بعدها ضبط الأعصاب وردود الفعل.
عود على بدء. إسرائيل ازدادت تطرفاً. الحكومة الإسرائيلية نتاج طبيعي ومحدود للتطرّف الديني الذي يجتاح الكتل الشعبية الإسرائيلية. تقرير صادر عن معهد إسرائيل للديموقراطية يؤكد ان 32 بالمئة من الإسرائيليين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 سنة وثلاثين سنة ينتمون حالياً إلى التيار الديني القومي أو التيار الديني المتشدد وان 64 في المئة من اليهود المتدينين لا يقبلون بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وان 72 بالمئة يرفضون استئناف المفاوضات، وان تفكيك المستوطنات هو خيانة لأمانة إلهية، وان نسبة اليهود العلمانيين قد تراجعت من 23 في المئة إلى 17 في المئة في عشر سنوات امتدت من العام 1997 إلى العام 2007. وانه للمرة الاولى حصل تضارب في تلقي الأوامر وتنفيذها اثناء الحرب على غزة بين الضباط والحاخامات الذين رافقوا الجنود.
تطرف إسرائيلي وأميركي متجانس
الأخطر من ذلك، ان هذا التطرف الإسرائيلي يتقاطع معه تطرف في الأوساط الأميركية المتشددة المنتشرة بقوة، رغم محاولات أميركية رسمية ويهودية لإحداث تغيير وسط هذه التكتلات اليهودية والأميركية على غرار إنشاء منظمة جاي ستريت التي افتتحت مؤتمرها الأول قبل اسبوع في واشنطن ودفعها نحو الاعتدال. من مظاهر هذا التطرف بعض كتابات الباحثين ومنهم دانيال باييس، يرى هؤلاء ان تحقيق النصر يمكن ان يتم مع طرف مهزوم دون سحقه وإبادته، وإما بإجباره التخلي عن أهدافه والقبول بشروط المفاوضات وتقديم التنازلات، وان المفاوضات السابقة التي أنتجت اتفاقات مثل اتفاق اوسلو قد أدت إلى تدهور أوضاع الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، لذلك يجب:
[ ردع الفلسطينيين وسحقهم ليكونوا عظة لغيرهم من العرب والمسلمين، أيضاً القضاء على كل عنصر يشجع الفلسطينيين على هدفهم بأنهم قادرون على القضاء على إسرائيل.
[ ضرورة إظهار قوة إسرائيل كما حدث ضد حركة حماس في غزة مع عملية الرصاص المسكوب.
[ إفراغ العقلية العدوانية ضد إسرائيل والقضاء على المقاومة.
[ من السابق لأوانه تحرك الديبلوماسية التي تهدف إلى إيقاف وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي حتى يتخلى الفلسطينيون عن معاداة الصهيونية.
هذا الموقف لا يجد ترجمته إلا في افتعال حرب محدودة أو واسعة. وفي إسرائيل كل شيء مهيأ لمثل هذا الخيار. حكومة متطرفة ورأي عام واسع أكثر تطرفاً والاثنان مدعومان بحملة واسعة تجعل من امتلاك إيران للقوة النووية حتى المحدودة والسلمية منها، قراراً مسبقاً بالعمل على إبادة الشعب اليهودي، لذلك ضرب إيران ومن معها هو حق يكاد يكون إلهياً.
لدى الفلسطينيين ايضاً قوى ناضلت في السابق، تقرّ بوجود هذا التطرف الأصولي، ولذلك فإنه لمحاصرتها وفرض الموقف على إسرائيل فإنه لم يعد لديها ما تخسره، ولتقع الانتفاضة الثالثة، حتى ولو كانت الخسائر الفلسطينية بالآلاف من الشهداء، والخسائر الإسرائيلية بالعشرات من القتلى، فإنّ نتائجها ستكون صناعة قوة دفع مهمة لعزل التطرف والمتطرفين في الداخل وإطلاق مسار مفاوضات فعلية وجادة لصياغة حل مطلوب لوقف دورة العنف. هذا الحل يبقى محصوراً في الداخل، لكن أيضاً يحق التساؤل، مَن يستطيع ضبط ردود الفعل وحصر المواجهة في هذه الدائرة الضيقة في فلسطين؟
مرة جديدة تسلم فيها الجرّة اللبنانية. ليس مضموناً أن يحصل ذلك في كل مرة توجه فيها من الجنوب رسالة نارية إلى إسرائيل، خصوصاً وسط هذا الفراغ المتنقل منذ سنوات على صعيد المؤسسات الدستورية، من رئاسة الجمهورية إلى مجلس النواب إلى الحكومة. دائماً المفاجأة تكون أخطر أنواع الأسلحة، فهل تقبل القوى اللبنانية، خصوصاً المقاومة منها، ان تواجه مثل هذا التطور وهي تتحرك وسط الفراغ؟
جميع القوى والأحزاب اللبنانية، معنية بمواجهة الوضع واحتمالاته الخطيرة، لكن حزب الله يبقى معنياً أكثر من كل القوى مجتمعة لأنه هو الهدف المركزي لإسرائيل. لذلك ألم يحن الوقت للعمل لإخراج لبنان من هذا الوضع الصعب والخطير، وذلك بالقيام بمبادرة حقيقية تقوم على تقديم تنازلات مؤلمة، خصوصاً من جانب حزب الله لكي لا تقع المفاجأة بالمواجهة وسط السباحة في الفراغ، بانتظار تشكل الثوابت في المنطقة؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.