لم يمنع الإخفاق، الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مع صديقيه القديم بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، والجديد الرئيس السوري بشار الأسد، من الاستمرار في مساعيه وجهوده لفتح مسار المفاوضات بينهما، وان يكون هو الوسيط والعرّاب في وقت واحد لتحقيق الإنجاز. رغم ذلك سارع إلى طرح فكرة قديمة جرى تجديدها بسرعة تقوم على عقد مؤتمر سلام محدود تحضره إسرائيل وسوريا ولبنان وفلسطين إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا. ساركوزي يعلم ان انعقاد مثل هذا المؤتمر قبل نهاية العام أو حتى خلال الأشهر الستة المقبلة يبدو مستحيلاً. لا توجد أي أسباب موجبة لانعقاده أولاً وفي باريس ثانياً.
الكرة في ملعب قوى المنطقة
الرئيس ساركوزي رمى الكرة في ملعب الأطراف المعنية في ملف النزاع العربي الإسرائيلي. على هذه الأطراف تقع مسؤولية الردّ إيجاباً أو سلباً. ربما على ضوء الإجابات، يمكن بناء مبادرة مدروسة تتوافر لها الأسباب الموجبة والمؤدية لنجاحها. أسلوب ساركوزي أصبح معروفاً، حاول ثم حاول، لعلك تنجح في واحدة من المحاولات. كل شيء ممكن، رغم ان الوضع في منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيداً وأكثر دقة وخطورة، لأن حدثاً صغيراً قد لا يعني حصوله في أي بقعة أخرى من العالم يشعل حرباً واسعة تغير كل المعادلات.
باريس تعترف بشكل غير رسمي بصعوبة الحصول على أي نتائج سريعة من هذه المبادرة أو غيرها حالياً. لكن في الوقت نفسه ترى انها معنية أكثر من غيرها من الدول خصوصاً الأوروبية وحتى الموجودة على الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط بما يجري في الشرق الأوسط وتحديداً بكل ما يتعلق بالنزاع العربي الإسرائيلي، لذلك كله لا يمكن لفرنسا الوقوف موقف المتفرّج، بانتظار التطورات، خصوصاً وأنّ هذه التطورات قد تحمل مفاجآت تعنيها مباشرة لأنها تتعلق أحياناً بأمنها القومي.
وجود قناعة لدى الإدارة الفرنسية الساركوزية، بأن يقع التزاوج بين متابعة التفرج على الأحداث وكأن الأمر هو مجرّد حضور فيلم سينمائي طويل، ومتابعة ما يقوم به الآخرون وملاحقة نتائج جهودهم، فلا يعود لفرنسا أي دور تلعبه يتناسب مع حضورها التاريخي في المنطقة من جهة وحجمها السياسي الأوروبي والدولي.
هذه القناعة هي التي تحرك حالياً الديبلوماسية الفرنسية وتدفعها رغم انخفاض رصيدها من الأوراق المؤثرة، وضحالة ما حصلت عليه من الأسد ونتنياهو إلى طرح مبادرة عقد مؤتمر دولي محدود في باريس من الواضح ان قاعدته تحريك المسارات الثلاثة السورية والفلسطينية واللبنانية مع إسرائيل في وقت واحد، بحيث لا يتم الاهتمام بمسار على حساب أي مسار آخر، لأن التجربة علمت ان شعور أي طرف بالإهمال سيدفعه لإعاقة أو حتى ضرب المسار الآخر، علماً ان كل طرف يملك العديد من الأوراق والوسائل للنجاح في هذه المهمة.
المشكلة أمام مثل هذا الاقتراح، ان الأطراف المباشرة المعنية وهي تل أبيب ودمشق وبيروت ورام الله، لديها الكثير من الأسباب التي تمنعها حالياً ولاحقاً ضمن المستقبل المنظور تلبية الدعوة الفرنسية. من ذلك، ان كل هذه الأطراف المعنية يجمعها قاسم مشترك وهو وجوب المشاركة الأميركية. بدون واشنطن أو دون معرفة حقيقة موقفها، لن يلبّي أحد أي دعوة بعيداً عن التحفظات أو المواقف الداخلية لكل طرف على حدة. لا معنى لمؤتمر سلام بدون واشنطن ورعايتها وضماناتها. إلى جانب ذلك فإنّ:
إسرائيل تلعب على الوقت حالياً لإنجاز المزيد من قضم وهضم الأراضي الفلسطينية. حتى يتحوّل العائق الأول امام قيام الدولة العامل الجغرافي قبل السياسي، كما ان اليمين المتطرف المتحرك وفي ظل دخول اليسار حالة الكوما وحركة السلام حالة الوفاة السريرية، لن يقدم أي تنازل لدمشق حول حدود 1967. سيجد دوماً ألف سبب وسبب لنسف أي اتفاق حول الجولان. أما بما يتعلق بلبنان فليس لدى إسرائيل أي عجلة لعقد أي اتفاق معه طالما انه لم يوقع مع دمشق، ووجد حلاً لـالمقاومة في الجنوب.
دمشق: لن يتنازل الأسد الابن ما لم يتنازل عنه الأسد الأب، خصوصاً وأنه أصبح قادراً بعد انفكاك الطوق حوله وشعوره بأنه قادر على التحرك وأن الآخرين سواء كانت باريس أو واشنطن بحاجة له في العراق ولبنان وفلسطين وإيران. كما انه لن يتخلى عن تركيا ودورها في أي مفاوضات جديدة. قوّة دمشق الآن أنها أصبحت محمية من الميمنة بتركيا ومن الميسرة بإيران.
الفلسطينيون بين المصالحة والثلاجة
الفلسطينيون طالما انهم لم يتصالحوا فيما بينهم (فتح وحماس) وبقي الانفصال قائماً بين الضفة الغربية وقطاع غزة، واستحالة الحصول على اعتراف دولي في ظل كل هذه الظروف بالدولة الفلسطينية، إذا ما أعلنت بـمبادرة من جانب واحد فإنهم سيستمرون في طلب التفاوض حتى لا يدخلوا الثلاجة. الحراك الدائم للمسار الفلسطيني ضروري جداً لا بل حياتي له.
لبنان، ليس لديه ما يتفاوض عليه مع إسرائيل، حقوقه معروفة وواضحة. حتى مزارع شبعا تبقى عملياً مشكلة مع دمشق، متى تحددت نهائياً انها جزء من الأراضي اللبنانية مع اعتراف سوري ناجز، لا يعود أمام إسرائيل سوى التعامل معها الا كأرض لبنانية عليها الانسحاب منها.
بعيداً عن كل ذلك، فإنّ أي انطلاق للمسار اللبناني يتطلب توافقاً وإجماعاً لبنانياً، لا يبدو انه متوافر حالياً، بين الذهاب إلى باريس لحضور مثل هكذا مؤتمر وتعرض الجبهة الداخلية لخطر جديد، فإنّ لبنان سيختار حكماً المحافظة على سلمه الأهلي. المعادلة بسيطة الاستمرار في المحافظة على ما يملكه من سلمه الأهلي، أهم بكثير من المراهنة على نتيجة مفاوضات غير مضمونة.
عود على بدء، هل ساركوزي يريد من هكذا دعوة القول عالياً انه موجود وانه يتحرك أم ان العملية أبعد من ذلك وهي تجري بالتنسيق مع واشنطن طلباً لدور مستقبلي يليق بفرنسا الحاضرة في منطقة الشرق الاوسط؟
رغم كل الفتور في العلاقات الشخصية بين الرئيسين الفرنسي نيكولا ساركوزي والأميركي باراك اوباما، فإنّ واشنطن أكدت بلسان جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ان هناك الكثير من النقاش والتنسيق مع باريس مضيفاً ان سياستنا تتلاقى وتكمل بعضها البعض. الديبلوماسية الفرنسية التي تعرف جيداً حدود المنافسة والمزاحمة مع واشنطن لن تلعب عليها ولا بمعزل عنها. وأنّ ما تقوم به حالياً من اتصالات ومبادرات هو لتخفيف الضغط على واشنطن الغارقة في مواجهة افغانستان وإيران من جهة وتصلب نتنياهو الذي أفقدها ورقة أساسية في الحصول على إرضاء الفلسطينيين ومعهم العرب وهي وقف الاستيطان الإسرائيلي.
من واجب الديبلوماسية الاستكشاف والاستطلاع والمسح قبل صياغة مبادرة حقيقية واضحة وشفافة. لذلك فإنّ باريس تقوم حالياً بانتظار أن تتوضح الصورة وتتحرر واشنطن من قيودها الضاغطة في افغانستان ومع طهران. بذلك لا يصبح الوقت وقتاً ضائعاً، بل مرحلة ضرورية للعمل الجدّي لاحقاً.
كل هذا مهم جداً، إذا كان ساركوزي ينسق مع الإدارة الاوبامية. أما إذا كان يلعب وحده كعادته لحسابه الخاص وطموحاته بالدخول إلى التاريخ من بوابة الشرق الأوسط، فإنّ خسارته مؤكدة والأخطر ان هذه الخسارة سترفع من حرارة الوضع البركاني في منطقة الشرق الأوسط.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.