باراك اوباما، جادّ في تنفيذ عملية الانسحاب العسكري للقوات الأميركية وحلفائها من العراق في العام 2011. هذه الجدية، لا تعود إلى عشق اوباما لحرية واستقلال وسيادة العراق، ولا لأن مشروع جورج بوش في بناء عراق ديموقراطي يشكل نموذجاً للشرق الأوسط الكبير قد نجح بعد إسقاط النظام الديكتاتوري لصدام حسين. بالعكس لأن كل المشروع الذي غزت القوات الأميركية العراق لتنفيذه قد فشل فشلاً ذريعاً يكاد يصل إلى حد الكارثة بجميع المقاييس وعلى مختلف الاتجاهات. العراق تحول إلى مشكلة أميركية بدلاً من أن يكون مشكلة وحتى مأساة للعراقيين ومحيطهم. حالياً واشنطن في سباق مع الزمن للخروج من العراق بأقل كلفة ممكنة. كل يوم جديد تتواجد فيه القوات الأميركية وحلفاؤها، يعني رفع منسوب الخسائر السياسية والمالية للولايات المتحدة الأميركية.
شياطين العرقنة
البحث عن أفضل الوسائل لتحقيق هذا الانسحاب دون سقوط العراق في الفراغ، ترجمته الميدانية فتح الأبواب أمام شياطين العرقنة بمعناها الواسع من حروب أهلية مذهبية وعرقية وإقليمية. الولايات المتحدة الأميركية ستكون المسؤولة الأولى عن هذه الكارثة الثانية بعد إفرازات ونتائج الكارثة الاولى المجسّدة في الغزو وسنوات الاحتلال. مسؤولية الأميركيين لن تتوقف في الجانب الأخلاقي منها، الأخطر انها ستجد نفسها مكرهة على الانخراط في مواجهات عملت على الابتعاد عنها حتى الآن.
دقة الوضع الاقليمي تؤكد ذلك. العالم ومنه واشنطن يعرف جيداً ان الرابح الكبير من عملية إسقاط نظام صدام حسين كانت الجمهورية الإسلامية في إيران. العراق كان يشكل خط دفاع أول عن المنطقة. ما كان يقوله صدام حسين بأنه يدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية في الحرب ضد إيران بعيداً عن الخطأ الخطيئة أصلاً في إشعال الحرب، يبدو الآن صحيحاً وواقعياً من زاوية استراتيجية بحتة. العراق الحالي الضعيف والمفكك عملياً فتح شهيّة الجميع لقضمه وهضمه من جهة والعمل للتحكم بمفاصل القرار في المنطقة، خصوصاً على صعيد ثرواته النفطية والمائية.
أزمة قانون الانتخابات الحالية تؤكد صحة المخاوف التي تجتاح العراقيين والأميركيين على السواء. تأجيل الانتخابات التشريعية غير مضمون بأنه لن يؤدي إلى تمدد الفراغ لأكثر من أشهر، تطول حتى الانسحاب الأميركي. ربما قد يكون أحد أهداف تمديد هذا الفراغ إجبار الإدارة الاوبامية على بقاء قواتها في العراق إلى ما بعد العام 2011، بكل ما يعني ذلك من تطورات دامية اين منها السنوات الماضية. الهدف الحالي الذي تعمل واشنطن عليه مع أطراف عديدة في المنطقة ومنها دمشق والرياض يقوم على العمل لدعم الاستقرار الهش من خلال:
تصحيح التوازن الطائفي في السلطة العراقية. هذا التوازن يقوم كما يبدو في فتح الأبواب أمام مشاركة السنّة في السلطة أكثر مما حدد لهم في الفترة الماضية. هذه العملية تقوم على أساس ان إمساك الشيعة بالسلطة تم عبر الأحزاب الدينية مثل الدعوة والمجلس الثوري المتحالفين مع طهران مما سمح لطهران بالتمدد إلى قلب السلطة في العراق، وجعلها تمسك بالملف العراقي بقوة في أي مفاوضات قادمة مع واشنطن. العقدة في عملية التصحيح هذه ان البعث الجديد القديم هو بمثابة القلب في هذه العملية، وهذا التحرك لا يرضي الشيعة والأكراد وإن بنسب وطرق مختلفة، وبطبيعة الحال طهران. واشنطن كما يبدو أصبحت مقتنعة ان الحل في العراق وافغانستان يتطلب التعامل جدياً مع البعث والطالبان الذين يقبلون الانفصال عن القاعدة. أسوأ من كل الحرب في العراق وافغانستان، الاضطرار إلى الاستعانة بقوى داخلية كان وجودها رافعة أو ستاراً للوصول إلى هذه الحالة.
بلير ومسؤوليته في فبركة الأسباب
طبعاً، ليس صدام حسين ونظامه وحدهما السبب في الغزو الأميركي. العمل حالياً في لندن على مراجعة أسباب الحرب وانخراط طوني بلير رئيس الوزراء آنذاك في الحرب، لا بل في فبركة الأدلة والأسباب الكاذبة الموجبة للغزو، قد ينتج عنها عاجلاً أم آجلاً المساءلة وحتى المحاكمة لبلير، ولا يبدو أن أحداً من المسؤولين عن الغزو والحرب سيكون فوق رأسه خيمة تحميه من المساءلة وتحمل نتائج مسؤوليته وأولهم جورج بوش ومساعدوه.
العمل على تصحيح التوازن الاقليمي بعد ان اختل لمصلحة ايران. هذه العملية اقتضت كما يبدو التعاون الاميركي مع دمشق حليفة طهران، تحت بند استعادة العراق العربي موحدا. بطبيعة الحال فإن الاندفاع في هذا المسار يريح السعودية وباقي دول الخليج، مما يعزز هذه العملية ويسرع في نتائجها الايجابية. التداخل قائم بين العمليتين التصحيحيتين. النجاح في الاولى يساهم ويدفع في نجاح الثانية والعكس صحيح.
مستقبل العراق حلقة اساسية من صياغة المستقبل الاقليمي والدولي. بدايةً اذا ولد من قلب النارعراق موحد متوازن وديموقراطي، فإنّ ذلك يفتح الباب نحو استعادة المربع العربي في المنطقة لتوازنه ويتنفس بقوة الاوكسجين الذي يحتاجه للعودة الى الحياة. بذلك يتحول هذا العراق الى رافعة حقيقية للعالم العربي ولو كان ذلك يتطلب فترة زمنية طويلة. يجب الا ينسى احد ان العالم العربي مريض بعدة امراض ابرزها العراق العليل.
أما إذا أخفقت عملية إعادة توحيد العراق وبقي ممزقاً بسبب السكاكين العراقية نفسها والاقليمية ومنها العربية، لأن كل طرف لم يحصل على ما يريده أو يطمح اليه، فإن المنطقة كلها ستكون تحت السكين. ما يساهم ويدفع بهذا الاتجاه، ان أطماع البعض أكبر بكثير من قدراتهم، وطموحاتهم أضخم بكثير من امكاناتهم.
تبقى الولايات المتحدة الاميركية في وسط حلقة النار. مهما كابرت فإن الحرب في العراق دفعت باتجاه تكبيل يديها خصوصا بعد ان أصبح يقال للجحيم اسم هو قندهار في افغانستان، هذه الوضعية هي التي أحرجت وتحرج الولايات المتحدة الاميركية وتجعلها عاجزة عن ضبط الطموحات الايرانية والتطرف الاسرائيلي في الوقت نفسه.
مستقبل لبنان من مستقبل التحولات في العراق. سقوط العرقنة ليس مساراً احادياً. انه يتكامل مع سقوط اللبننة بسرعة والصوملة في المستقبل المنظور. لذلك كل حدث إيجابي عراقي هو حدث لبناني إيجابي. من مصلحة لبنان عدم حصول الفراغ في العراق وأن تنجح تجربة بناء هذا التوازن الضروري فيه.
ما يساهم في هذا التفاؤل ان لبنان وُضع تحت سقف التهدئة والهدوء تحت بند الوفاق الوطني. لكن هذه الوضعية لا تعني مطلقاً ان اللعب مسموح تحت هذا السقف في ظل ضوابط وحسابات دقيقة. من ذلك أنّ الدعوة لإلغاء القرار الدولي 1559 بحجة تنفيذه تعني العمل للعودة عن كل مفاعيل 14 آذار ومقدمة للعمل لطلب إلغاء القرار 1701 وإخراج لبنان من تحت مظلة القرارات الدولية قبل تنفيذهما بالكامل من جهة، ونضوج الأسباب الموجبة لذلك، يعني العودة إلى قلب إعصار النار.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.