هل الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مجنون حتى يرمي بلاده في قلب إعصار النار الذي تقف على حافته؟ وإذا كان نجاد فعلاً مجنونا، فماذا عن العقلاء في إيران وهم كثر في مواقع القرار، ألا يمكنهم الوقوف في وجهه ومنعه من هذا الجنون القاتل، خصوصاً أنّ مصير إيران والإيرانيين في أساس هذه اللعبة؟
يمكن إضفاء كل النعوت على أحمدي نجاد، من المتطرف إلى المتشدّد إلى الانقلابي المهدوي، لكن بالتأكيد ليس مجنوناً. نجاد جزء مهم من آلة مصاغة بدقة على قياس إيران. المرشد آية الله علي خامنئي ركب سفينة التجديد لنجاد رغم كل المحاذير والمخاطر التي كانت تحيط بالعملية، لأنه اعتقد منذ البداية أنّ طريقة نجاد في إدارة الملف النووي والتعامل مع الغرب قد نجحت، وأنه ما زال قادراً على النجاح في المرحلة الاوبامية، رغم التغيير الذي حصل في الإدارة الأميركية الجديدة.
المفاوضات بين الرفض والتشدّد
المشكلة في كل ذلك، اقتناع المرشد حتى اليقين ان التعامل مع الغرب وتحديداً واشنطن لا يمكن أن يتم من منطلق الاعتدال. واشنطن لا تفهم إلا لغة التحدّي والرفض والتشدّد. ما زاد من قناعة المرشد وباقي تشكيلات السلطة والقوى السياسية الدائرة في فلكه، ان المتغيرات السياسية في المنطقة ترفع من منسوب نجاح هذه السياسة. واشنطن ضعيفة ومربكة بحربَي افغانستان والعراق والأخطر منهما الأزمة المالية. الحروب يلزمها الرجال والمال. واشنطن لم تعد قادرة على إرسال الجنود إلى الجبهات بلا حساب لموقف الرأي العام الأميركي ورفضه لتقديم التضحيات والضحايا، والخزينة الأميركية لا تملك فائضاً مالياً ولا حتى أرصدة كافية لتغطية تكاليف أي مواجهة في زمن يكلف فيه الجندي الأميركي المرسل إلى الجبهة الافغانية مليون دولار في العام الواحد.
ضمن هذه الحسابات الإيرانية البحتة، فإانّ الوضع بالنسبة لها مختلف جداً. الإيرانيون مستعدون لتقديم قوافل جديدة من الشهداء على مذبح العزّة النووية الإيرانية، مهما بلغت حدّة خلافاتهم، والأموال موجودة لا يهم ماذا يأكل الإيراني، المهم السلاح الذي تملكه الجمهورية. نفس المنطق السوفياتي في صناعة الصواريخ العابرة للقارات أهم من صناعة البرّادات للمواطن السوفياتي العادي، هو الطاغي. مثل هذه القناعات تبني دولاً ولكنها أيضاً تلغي دولاً. الوضع كله معلق على حسابات مهما بلغت دقّتها، تبقى خاضعة لحصول متغير زلزالي يطيح كل شيء.
أحمدي نجاد يلعب دوره ببراعة، أحياناً يبدو وكأنه يلعب سولو أي وحده على المسرح. لكن في أوقات كثيرة يتبين ان ما يجري هو نوع من توزيع للأدوار. كل طرف في داخل السلطة له موقعه في صياغة الموقف المحدد. علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى والمفاوض السابق حول الملف النووي (أي الخبير في تفاصيل هذا الملف) هاجم إدارة نجاد للمفاوضات دون أن يسمّيه قبل أربع وعشرين ساعة من الإعلان نحو بناء عشرة مفاعلات نووية ورفع نسبة تخصيب الاورانيوم إلى 20 بالمئة في إيران نفسها. بعد أقل من ساعات من الغضب الأميركي والغربي ردّاً على إعلان بناء المفاعل العاشر، سارع إلى القول ما زال في الإمكان التوصل إلى حل عن طريق الديبلوماسية. ربما لاريجاني يتمنى فشل نجاد حتى تكتمل إزاحته من أمام مساره الصاعد نحو السلطة، لكن في مواجهة موقف استراتيجي يتراجع عن المواجهة الداخلية وينفتح على المواجهة الخارجية، عاملاً على صبّ الماء البارد على الموقف الساخن.
المرشد آية الله علي خامنئي ومعه مذياعه النفسي الرسمي أحمدي نجاد يناوران. الرطل يلزمه رطل وأوقية كما يقول المثل الشعبي. الشروط الغربية يلزمها موقف تصعيدي. الإيرانيون يفاوضون ضمن صيغة ثبّت ما حصلت عليه، إرفع سقف مطالبك، ثم إبدأ التفاوض من سلة المطالب الجديدة، كل نقطة جديدة تسجلها لمصلحتك تشكل مكسباً إضافياً إلى ما سبق وحصلت عليه. طهران حصلت حتى الآن على التخصيب بنسبة 3,5 بالمئة، وآلات شرعية مفاعلها ومراكزها النووية. الإعلان عن بناء عشرة مفاعلات جديدة، ترجمته، التفاوض حول هذه المفاعلات. مقابل خفض عددها أو حتى إلغائها ستطلب إيران تنازلاً غربياً يتعلق برفع نسبة تخصيب الكميات الموجودة عندها من 3,5 إلى 20 بالمئة فوق أراضيها، وليس خارجها.
الحرب القومية
طهران مطمئنة ان تصعيدها للموقف لن يؤدي إلى قيام يوم القيامة ضدها. الغرب وفي مقدمته واشنطن، يتحدثون عن قرار بتشديد العقوبات ضدها، لا أحد يتحدث عن ضربة عسكرية ولا حرب عسكرية. طالما ان سقف الرد الغربي تشديد العقوبات، فليس في الأمر ما يقلق. أصلاً، يقول الإيرانيون انهم في حالة حصار منذ ثلاثين عاماً، فما خوف الغريق من البلل. حرب البنزين التي جرى التهديد بها، يبدو أنها لم تعد تقلق الإيرانيين. وجود روسيا على الحدود معها، يعني حدوداً مفتوحة لكل أنواع المقايضات والتهريب، هذا إذا لم ترفض موسكو ومعها بكين تشديد العقوبات ضدها، مما يعني إعلان وفاة تشديد العقوبات سريرياً.
تبقى إسرائيل، وهي لا تخيف الإيرانيين. الحرب ستكون معها حرب طائرات وصواريخ. أضرارها تبقى محدودة، لأنّ إسرائيل لا يمكنها القيام بغارات جوية تضم أسراباً جوية عدّة في وقت واحد ولفترات غير محدودة، موافقة واشنطن ملزمة للاستمرار في هذه الحرب، بذلك الحرب تصبح أميركية إيرانية مفتوحة على كل الجبهات والاحتمالات.
الأهم من كل ذلك، في إيران مواقع أساسية في النظام ترغب فعلاً في أن تخطئ إسرائيل الحساب وتعتدي على البلاد. حتى الآن العداء لإسرائيل ما زال عداء ايديولوجياً. الانتخابات الرئاسية الأخيرة أكدت ان العداء الإيراني لإسرائيل له قراءات عديدة لتفاصيله المعقدة. ظهور شعار: لا غزة ولا لبنان، الشهادة من أجل إيران أثبت ذلك. توجد شرائح واسعة وعديدة من الشعب الايراني، تريد إيران أولاً. هذا واقع، وليس مجرد قراءة لمجريات الحملة الانتخابية. الدليل ان هذا الشعار وغيره تكرر ظهوره في مناسبات عديدة طوال الأشهر الأخيرة. أي حرب تشنها إسرائيل على إيران، ستتحوّل حكماً إلى مواجهة قومية، تلغي الانشقاقات الحالية بين اصلاحيين ومتشددين. لن يستطيع بعد ذلك أي إيراني الوقوف حتى على الحياد في مواجهة إسرائيل، يصبح العداء إيرانيا فارسيا مع إسرائيل. مثل هذا التحوّل لا يمكن محوه من تاريخ العلاقات، وسيتم البناء عليه لفترة طويلة. سقوط ضحايا إيرانيين بالآلاف ومعهم مشروع قومي مثل المشروع النووي الذي ربط نجاحه مؤخراً بحصول إيران على الكهرباء حسب حاجاتها، سيحوّل الخلاف الايديولوجي إلى نزاع مصيري.
اللعبة مفتوحة على حدود الجحيم، لكنها مضبوطة في احتمالاتها على الواقع. ما لم ينزلق التشدد الايراني أو التطرف الإسرائيلي في لحظة جنون معينة، فإنّ المفاوضات غير المباشرة والمباشرة مع واشنطن ستستمر بين كرّ وفر. كل طرف سيعمل على تسجيل الأهداف في مرمى الطرف الآخر. المهم الحصيلة التي من الصعب جداً إعلان منتصر ومهزوم فيها، خصوصاً وأنّ الحرب ممنوعة حتى ولو جرت أحياناً المفاوضات بالنار.
العالم العربي في مأزق صعب جداً، وجود إيران نووية على حدوده مسألة خطيرة، ووقوع حرب إيرانية أميركية أو إيرانية إسرائيلية أو ثلاثية الأطراف، يعني بوضوح وقوع يوم القيامة لأنها لن تكون مواجهة عسكرية ضمن مساحة إيران. كل المنطقة ستكون مفتوحة على كل المخاطر ومنها لبنان. من الممكن التعامل مع إيران نووية لا تجنح نحو التسلح النووي، لكن من الصعب جداً قراءة استتباعات أي حرب عسكرية.
العجز العربي، هو الداء السرطاني، ما لم يتم التخلص منه، فإن مستقبل هذه الأمّة في مهبّ الريح.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.