8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

دمشق نحو الوسط الذي يفتح الأفق مع العرب والغرب ويثبّت الشراكة مع تركيا النموذج الذي يطرق كل الأبواب العربية

تطبيع العلاقات السورية اللبنانية أول الغيث. متغيرات جديدة ومهمة تنضج في المنطقة. لا يمكن فصل زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق ومحادثاته الطويلة والمكثفة مع الرئيس بشار الأسد، عن زيارات أربع جرت: علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الايراني الى القاهرة، ولقاؤه مع الرئيس حسني مبارك، ومنوشهر متكي وزير الخارجية الايراني الى بيروت وجولته الواسعة والشاملة على المسؤولين والقيادات، والرئيس حسني مبارك الى المملكة العربية السعودية، وأخيراً رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي والوفد الوزاري الاستثنائي الذي رافقه الى دمشق للمشاركة في اجتماع مجلس التعاون الاستراتيجي التركي السوري.
قاسم مشترك يجمع هذه اللقاءات والمحادثات وبعض نتائجها الايجابية التي ظهرت على السطح فوراً كما بين بيروت ودمشق، وهو التحضير للتعامل مع المرحلة القادمة المختلفة جدياً وفي العمق عن مرحلة السنوات الخمس الأخيرة. الآن يمكن القول بدون مغالاة ان المرحلة البوشية التي طبعت المنطقة منذ الاحتلال الأميركي للعراق قد انتهت. المرحلة الجديدة لم تتبلور بعد، لأن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يعلن استراتيجيته صراحة. هذا التأخير ـ وربما التردد ـ يعود الى صعوبة الخيار الذي يواجهه أوباما مع ايران. المعادلة أمام أوباما واضحة وهي من نوع أحلى الخيارات مرّ. الحرب ممنوعة، والعقوبات مهما جرى تشديدها لن تقنع طهران بالتراجع.
الآلية هي الحَكَم
آلية تنفيذ التطبيع بين دمشق وبيروت وسرعتها ستؤكدان جدية التطبيع الذي جرى في قصر تشرين. المهم ان لبنان دخل مرحلة من التهدئة والهدوء تمكنه من استعادة أنفاسه والتفرغ لتحريك ادارته واقتصاده بما يمكنه من أخذ جرعة عالية من الأوكسيجين الضروري له.
دمشق دخلت مسار التفاهم والتطبيع مع السعودية أولاً. معادلة س س أي السعودية وسوريا فتحت الأبواب أمام التطبيع بين بيروت ودمشق. هذا كما يقال: من نافل القول، لأنه اصبح قديماً. السؤال الطبيعي لماذا جنحت دمشق بهذا الاتجاه؟!. الدول لا تغيّر مساراتها أو مواقفها بسهولة. لا بد ان تحولات حصلت دفعت نحو هذا الخيار.
دخلت دمشق مسار الوسط استراتيجياً. الحلف مع طهران طوال الفترة الماضية شكّل رافعة لها مكّنتها من الصمود والمواجهة. لكن ذلك وضعها في حلقة مقفلة. صمودها تحوّل من خيار الى حاجة. يوماً بعد يوم أصبحت دمشق بحاجة الى طهران بدلاً من أن تكون الأخيرة بحاجة إليها، لأنها شريان الحياة الذي تتدفق عبره العلاقة الايرانية مع فلسطين عبر حماس ومع لبنان عبر حزب الله. توجّهها نحو الوسط كما يجري حالياً جاء بعد تحول العلاقات مع أنقرة الى علاقات استراتيجية.
حتى في عزّ العلاقات بين دمشق وطهران لم يحصل ان انتقلت الحكومة الايرانية الى دمشق لعقد اتفاقيات تعاون استراتيجي كما يحصل الآن بين أنقرة ودمشق. الوفد التركي برئاسة طيب رجب أردوغان يضم: وزراء الخارجية والعدل والداخلية والصحة والنقل والزراعة وشؤون الريف والبيئة والغابات والطاقة والموارد الطبيعية، بالاضافة الى وزيري دولة والعديد من المستشارين. الهدف نقل العلاقات التركية السورية الى مستوى جديد ونوعي.
الفرق بين الهجمتين الايرانية والتركية على المنطقة كبير جداً. ايران اخترقت عبر هذه العلاقة الملفين العربيين بامتياز، وهما المقاومة في فلسطين ولبنان، وبنت عليهما حضورها داخل البيت العربي. تركيا دخلت على هذا البيت من أبوابه العديدة. طرقت كل باب على حدة بما يتناسب مع طبيعة أهله. ايران أخافت أهل البيت وأقلقتهم. تركيا عملت على طمأنتهم، ايران تحالفت مع دمشق وحدها طوال ثلاثين عاماً وخاصمت باسم الثورة الاسلامية الآخرين، في حين أن تركيا قدمت نموذجاً جديداً للعلاقات من البوابة الدمشقية وهو الشراكة والمشاركة في العلاقات مع الآخرين.
الشراكة التركية مع دمشق سهّلت أمامها الانزلاق، ثم الانخراط تدريجياً، نحو الوسط. العلاقات مع تركيا قدمت لدمشق ضمانات أمنية واقتصادية (من دولة اقتصادها منتج وقوي) وخطاً مفتوحاً على الغرب سهّل أمامها التعامل مع فرنسا وجعل امكانية التطبيع مع واشنطن حقيقية ومنحها أفقاً مفتوحاً على المصالحة العربية ـ العربية.
طهران والمواجهة الداخلية
طهران المأزومة داخلياً تتشدد ضد معارضتها سعياً منها الى حل لا تراه في المصالحة والتفاهم. أنقرة المرهقة من الملف الكردي تعمل على حله بالحوار رغم أن بينها وبين أكرادها عقوداً من الحرب. تركيا تستطيع أن تقدم نفسها نموذجاً للآخرين، في حين ان ايران اليوم يصعب عليها ذلك.
زيارتا لاريجاني ومتكي الى كل من القاهرة وبيروت، في وقت يهتف فيه الرئيس الايراني أحمدي نجاد مخاطباً واشنطن والغرب معها: من هم ليحددوا لنا مهلة؟، وجه آخر للحركة الايرانية. طهران تبدو أكيدة من صدور قرار يشدد العقوبات الدولية ضدها. هذا القرار سيكون بالاجماع أي بمشاركة موسكو وبكين معاً. النظام الايراني لا يبدو خائفاً من هذه العقوبات. أصلاً ايران تعيش في حصار غربي منذ ثلاثة عقود. ما خوف الغريق من البلل؟.
عدم خوف طهران من العقوبات المشددة، لا يعني أنها ستستسلم لقدرها. بالعكس تؤكد طهران ان واشنطن والغرب معها اعترفا لها بحقها بالتخصيب بنسبة 3,5 في المئة. كل ما تربحه في ما بعد حتى ولو كان وسط آلام الحصار سيشكل مكاسب جديدة لها لم تكن تحلم بالحصول عليها. المعركة معركة عض أصابع، والمعركة مفتوحة. طهران قادرة على الالتفاف على العقوبات. الحدود مع روسيا طويلة جداً، وكذلك مع تركيا وبعض دول الخليج.
هذا كله لا يكفي. طهران مهما كانت قوية، لا يمكنها الصمود في وجه العقوبات الدولية، اذا وجدت نفسها محاصرة من محيطها الجغرافي. الحل أمامها تحقيق نوع من الانفراج مع محيطها الجغرافي العربي. على الأقل في مرحلة أولى: خفض سقف التوتر المتحكم بالعلاقات بينها وبين معظم الدول العربية.
الخطوة الايرانية الأولى جاءت باتجاه مصر. الخلاف حول ملف حماس يجب ألا يحول دون التفاهم حول ملفات أخرى. باريس أعطت مثالاً على ذلك أثناء مسار التطبيع مع دمشق. فصلت باريس خلافها معها حول لبنان عن تطبيع علاقاتهما المشتركة. ايجابية هذا الفصل كانت مزدوجة اذ حصل التحسن في العلاقات الثنائية، وانعكس هذا على موقف دمشق من لبنان وفيه.
طهران وقبلها دمشق التي تستعد للمصالحة مع القاهرة سمعت مباشرة: طالما أن الحل في لبنان جاء بقبول قواعد الجغرافيا السياسية وأولها تفهم وقبول الدور السوري، على الآخرين خصوصاً دمشق وطهران قبول الجغرافية السياسية لقطاع غزة والحل في تفهم وقبول الدور المصري في القطاع. ترجمة ذلك ترك ادارة الملف مع حماس في غزة لمصر، من دون أن يمنع ذلك المتابعة والمراقبة وحتى التدخل لتحسين الأداء أو لرفع المستجد من العوائق والحواجز أمامه.
خفض طهران لسقف التوتر يعود في خلفياته غير المرئية، الى حساسية ايران المستجدة من الدور التركي في المنطقة. النموذج التركي الناهض والناشط حالياً يدفع طهران الى مراجعة ضمنية لمسارات تعاملها مع الدول العربية. كلما تعمقت الشراكة التركية مع دمشق أولاً ومع باقي الدول العربية ثانياً، جاءت ترجمته في مزيد من التحرر السوري من أعباء التحالف مع ايران من دون أن يؤدي ذلك الى الطلاق معها. دمشق ستجد نفسها أكثر اطمئناناً بوجود التوازن بين تركيا وايران، فكيف بالنسبة للدول العربية الأخرى التي لا ملفات تاريخية لها مع تركيا؟.
عملية خفض سقف التوتر ايرانياً، من ضمنها أساساً دعم التطبيع السوري اللبناني، لأنه على المدى المنظور يشكل ضمانة لـحزب الله. العملية ستستمر، تغيير واحد يعطل هذا المسار ويدفع باتجاه مسار التفجير. سقوط أحد الأطراف سواء كان ايران أو الولايات المتحدة الأميركية أو اسرائيل نتيجة لحسابات خاطئة سيشعل المواجهة المسلحة.
.. عندها يجب الصلاة كثيراً حتى تتجمد جهنّم!.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00