القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن والقرارات الصادرة عن الجمعية العامة، لا تلغى ولا تموت. تعلّق. لا تنفّذ. تخزّن في الأرشيف. كل ذلك صحيح. لكن الصحيح أيضاً، انه في لحظة معينة تنقلب فيها المعادلات، وتقع متغيرات تنتج انقلاباً جدياً في موازين القوى ومواقف بعض الدول من قرار معين. يتم نفض الغبار عنه ويخرج الى الحياة، ويتحول من جديد محوراً للمناقشة وحتى المطالبة بتنفيذه. لم يعرف العالم حتى الآن استثناء لهذه القاعدة.
الحملة على القرار 1559 المتعلق بلبنان الصادر في 2/9/2004، من جانب بعض القوى اللبنانية، سواء لأنها رفضت أو ترفض هذا القرار من الأساس، أو محاولة لإرضاء دمشق أو استرضائها أو التقرب منها تؤذي أكثر مما تفيد. العلاقات اللبنانية السورية، بحاجة من أجل إعادة بنائها الى خطوات كبيرة وشجاعة بحجم الخطوة الوطنية التي قام بها الرئيس سعد الحريري في زيارته الى دمشق ولقائه ومباحثاته مع الرئيس بشار الأسد، الذي قابل الخطوة الكبيرة بخطوة مماثلة تؤسس فعلاً لعلاقات مستقبلية متخلّصة من آثار الماضي.
بنود القرار 1559
القرار 1559 صدر في ظرف سياسي معيّن خاص بلبنان وسوريا. قد تكون الأحداث تجاوزته، منها الانتخابات الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال سليمان الى بعبدا. قبلها انسحاب الجيش السوري من لبنان. لكن القرار يبقى حتى ولو لم يعد يتوافق في بعض جزئياته مع مواقف وطموحات قوى سياسية ملتزمة. المطالبة باعتباره ميتاً أو بأنه مضى، ليست من مصلحة لبنان فكيف المطالبة بإلغائه؟. من الضروري العودة الى نص القرار ومناقشته بنداً بنداً، لمعرفة المحصلة الفعلية له.
مقدمة القرار 1559 وحدها تؤكد أن كل القرارات الدولية ذات الصلة بالقرار الصادر والمتعلق بالدولة المعنية أي لبنان باقية وتشكل قاعدة بحسب الارتكاز اليها والعمل بها.
ان مجلس الأمن، اذ يشير الى جميع قراراته السابقة بشأن لبنان، ولا سيما القراران 425 (1978) و426 (1978) المؤرخان 19 مارس/آذار 1978 والقرار 520 (1982) المؤرخ 17 سبتمبر/أيلول 1982، والقرار 1553 (2004) المؤرخ 29 يوليو/تموز 2004، فضلاً عن بيانات رئيسة بشأن الحالة في لبنان، ولا سيما البيان المؤرخ 18 يونيو/حزيران 2000 (21/2000 S/PRST).
بنود القرار واضحة. معالجة كل بند على حدة مهمّ جداً لتأكيد استمراريته وسحب المطالبة بإعلان وفاته أو إلغائه ضروري جداً لمصلحة لبنان أولاً ولفلسطين ثانياً، رغم ان القرار لا يجمع بين لبنان وفلسطين.
*البند الأول: يؤكد (مجلس الأمن) مجدداً مطالبته بالاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الاقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها دون منازع في جميع أنحاء لبنان.
من يستطيع الاعلان أو حتى لديه الجرأة في رفض هذا البند الذي يحمي لبنان الذي مهما أصبح قوياً بجيشه ومقاومته يبقى بسبب جغرافيته السياسية مستضعفاً، ووحدته معرّضة الآن كما في الماضي ومستقبلاً كما حاضراً لتجارب تبدأ بطروحات مثل الفيدرالية والكانتونات وغيرها. أما استقلاله السياسي فإنه بحاجة الى التحصين، لأنه كان وما زال ساحة أو ملعباً أو مختبراً لقوى اقليمية ودولية. هذه واقعة وحقيقة مهما كانت مؤلمة وحتى في لحظة معينة مذلّة بصريح العبارة.
[ البند الثاني: يطالب جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان. صحيح ان القرار يوم صدوره استهدف القوات السورية، وقد انسحبت ولا داعي للتذكير بذلك. كل كلمة في اي قرار تخضع للمناقشة وأحياناً للتفاوض، لذلك فإن عمومية النص وعدم الاشارة الى القوات السورية، تجعله بنداً قابلاً للحياة طويلاً، أولاً، وثانياً يجعل القوات الاسرائيلية التي تحتل مزارع شبعا والغجر وتلال كفرشوبا من ضمن القوات المطلوب منها الانسحاب. هل من مصلحة لبنان إلغاء هذا البند مثلاً بعد أن نفذت سوريا ما يتعلق منه بها؟.
[ البند الثالث: يدعو الى حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها، طالما ان الوفاق اللبناني الذي جسده البيان الوزاري تحدث حصراً عن المقاومة وشرعيتها، فإن البند لا علاقة له بالميليشيات والمقاومة ليست ميليشيا. أليست المطالبة بإلغاء القرار أو اعتباره ميتاً تشكل خطأ سياسيا كبيرا لأنه يعيد ما اصبح استراتيجياً حاضراً ومستقبلاً الى الماضي المختلَف عليه؟.
[ البند الرابع: يؤيد بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية. في هذا البند كل ما يتمناه أي لبناني، وهو قيام الدولة اللبنانية، وأول شروط هذه القيامة انهاء الوجود المسلح للمنظمات الفلسطينية غير الفلسطينية. هذا بند أجمعت عليه كل القوى التي شاركت في طاولة الحوار. المطلوب اليوم قبل الغد الإصرار على تنفيذ هذا البند وسحب السلاح من قوسايا والناعمة وغيرهما.
يبقى البند الخامس وقد نفّذ بالكامل مع انتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، لكن لأنه، لا يمكن حذف بند والقبول بالبنود الأخرى، فمن الطبيعي حتى وإن كان هذا البند لزوم ما لا يلزم، أن يبقى. على الأقل يصبح قاعدة في أي انتخابات رئاسية قادمة لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها مهما كان الظرف استثنائياً.
فلسطين معنيّة
السؤال الثاني: ماذا يعني كل ذلك فلسطين؟
لبنان، العضو غير الدائم في مجلس الأمن في مطلع العام القادم، يحوز على دور سياسي وديبلوماسي استثنائي، ولبنان قادر على لعب هذا الدور خصوصاً في ظل حكومة الوفاق الوطني.
لبنان سيكون ممثلاً للمجموعة العربية، يأخذ بموقفها ويعبر عنه في المناقشات القادمة لمجلس الأمن. فلسطين ستكون في قلب الحركة السياسية الدولية في العام 2010. لذلك كل ما يقوي لبنان في حركته الديبلوماسية يقوي التمثيل العربي والقضية الفلسطينية.
لبنان تحديداً قبل غيره من الدول العربية، يجب ألا يعلن أو يطالب باعتبار أي قرار حتى ولو كان القرار 1559 الذي يعتبره بعض اللبنانيين رمزاً لمواقف يرفضونها، ميتاً أو ملغياً. اسرائيل في مجلس الأمن أقوى من لبنان حتى ولو لم تكن عضواً في مجلس الأمن.الولايات المتحدة الأميركية أقوى من الآخرين. مثل هذه المطالبة تشجع اسرائيل على المطالبة بإلغاء القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة في الثالث من كانون الأول عام 1948، الذي حاز على موافقة 35 صوتاً في مقابل 15 وامتناع ثمانية أصوات. هذا القرار ينص على عودة اللاجئين. هذه العودة في قلب الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. من الطبيعي جداً ان المناقشة حول بقاء أو إلغاء القرار يريحان اسرائيل. أما الأخطر بالنسبة للبنان فإن إلغاء قرار عودة الفلسطينيين يؤدي مباشرة الى تشريع توطين الفلسطينيين حيث هم خصوصاً لبنان. اللبنانيون بجميع طوائفهم وقواهم يحاربون التوطين، فهل يدفعون من حيث يدرون أو لا يدرون نحو هذا الشر الذي سيحرق لبنان نهائياً؟.
يبقى ان القرار 194 حلقة من سلسلة قرارات بينها قرار التقسيم رقم 181 الذي وإن كان لبنان الى جانب مصر من بين الدول الذي رفضته، الا انه يبقى صيغة يبنى عليها الآن في المفاوضات حول قيام الدولة الفلسطينية.
اللبنانيون قادرون مع دمشق على تجاوز الجزئيات التي تسيء حسب ظن البعض الى العلاقات السورية اللبنانية. من واجب اللبنانيين كل اللبنانيين التعامل مع ايجابيات القرار واستثمارها واعتبار ما نفّذ منه قد نفّذ.
المطالبة بإخراج القرار 1559 من دائرة المناقشة والتداول ليست دفاعاً عن القرار 1559، انما دفاعاً عن لبنان وفلسطين، القضية القومية المركزية بلا نقاش.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.