8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الأسد أعاد هيكلة سياسته الخارجية باتجاه الانفتاح والتطبيع مع واشنطن بعد باريس والرياض وبيروت

تنجز دمشق انعطافة حقيقية ومهمة في سياستها الخارجية. لا يمكن الإنكار أو التغافل عن مجريات هذه الانعطافة ومفاعيلها وتردداتها على كامل مسارات تحركاتها. دمشق كانت دائماً تعلن وتؤكد أنها في قلب جبهة الممانعة والمواجهة. مع إيران شكلت محوراً قوياً ومتماسكاً، استطاع الصمود أولاً، والانتقال الى المواجهة ثانياً. منطقة الشرق الأوسط، تحولت الى ساحة مفتوحة لتبادل كرات النار مع الولايات المتحدة الأميركية أولاً وأوروبا ثانياً. كلفة هذه المواجهة كانت ضخمة. في النهاية النتائج هي التي تحدد ما إذا كانت كلفتها مناسبة أم لا. بالنسبة لدمشق وطهران الكلفة جاءت بسيطة جداً أمام النتائج الايجابية، خصوصاً وأنها كانت دائماً من كيس الآخرين، وليس من كيسهما.
المغامرة مرفوضة
الرئيس بشار الأسد، أعاد في الفترة الأخيرة هيكلة سياسة بلاده الخارجية. الهيكلية الجديدة، مدروسة بعناية وفي العمق، وهي تنفذ بهدوء وتصميم. كما أصبح واضحاً، ليس من طبع الأسد كما والده الرئيس الراحل حافظ الأسد المغامرة. في صلب أي مغامرة، التعرض للخطر والمفاجآت. التقدم الهادئ سمة السياسة الخارجية السورية منذ مطلع السبعينات. المغامرة قتلت الرئيس المصري أنور السادات. بينما الصبر والتقدم خطوة خطوة بعد استطلاع ميداني كامل، ثبت النظام في دمشق وجعله من الأب الى الابن حاجة وضرورة للآخرين في المنطقة.
من دون الانزلاق في تحديد فترة التحول زمنياً، فإن الأسد نجح في الفترة الأخيرة في تنفيذ المسار الجديد للسياسة السورية، فك عزلته وتحلل من الحصن الذي أقام فيه من دون أن يتخلى أو يدمر تحصيناته، الحذر مطلوب ومستمر، فالمستقبل ما زال غامضاً لأن عملية الخروج من أمام الأفق المسدود ما زالت بطيئة. حقق الأسد حتى الآن:
[ إقامة علاقات تعاون استراتيجي مع تركيا. لا شك أن انفتاح الأسد على تركيا وإنجازه لهذه الخطوة المهمة والأساسية في السياسة السورية الخارجية، جاء لأول مرة من خارج إرث والده الرئيس الراحل. بذلك حقق أول إضافة استراتيجية الى الإرث الذي تسلمه من الأسد الأب. ربما جاء ذلك لأن الرئيس السوري استشعر باكراً التحولات، خصوصاً مع اقتراب انتهاء المرحلة البوشية من دون مواجهة عسكرية مباشرة.
هذه العلاقات تقيم توازناً حقيقياً في علاقات سوريا مع إيران. دمشق ضمنت ميسرتها وميمنتها في وقت تعمل فيه على دعم قلبها وصدرها عبر استعادة علاقاتها العربية.
[ الانفتاح على الغرب من البوابة الفرنسية. أدرك الأسد أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يريد دوراً في الشرق الأوسط، فأعطاه الصورة وترك الفعل في جيبه للرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما القادم ليغيّر. ساركوزي صالحه أولاً مع فرنسا ثم فتح له أبواب أوروبا. تسلم الأسد أول شهادة حسن سلوك في هذا المسار الجديد انطلاقاً من لبنان المرتبط بعلاقة عاطفية تاريخية مع فرنسا، ثم انطلق القطار.
[ الحوار مع واشنطن بعد أن سقطت تهديدات كولن باول، وزير الخارجية الأميركي السابق. يجب الملاحظة بكل جدية أن واشنطن البوشية لم تتحدث في أي لحظة عن تغيير النظام أو الانقلاب عليه، وإنما ركزت على تحسين سلوكه. لذلك لم يكن صعباً بالنسبة للإدارة الأوبامية دخول مسار الحوار مع دمشق الأسد. لم تكتمل مفاعيل هذا الحوار بالتطبيع حتى الآن، لكن من الواضح أن عملية الاستشعار الأوبامية للسياسة السورية في المنطقة خصوصاً تجاه لبنان والعراق قد أعطت نتائج ايجابية. تعيين السفير الأميركي الجديد في دمشق قريباً سيكون ترجمة للانتقال من الحوار الى التطبيع. واشنطن الأوبامية التي تريد تحريك المسارات السلمية في النزاع مع إسرائيل بحاجة شديدة لدمشق، لأنها تملك مفتاح نجاح المفاوضات أو فشلها بعد خروج مصر من الحلبة.
[ المصالحة مع محيطها العربي. لدمشق علاقات عربية لا شك فيها. لكن خيمة هذه العلاقات كان ينقصها العمود وهو السعودية ومصر. تصالحت دمشق مع الرياض. وأقدمت على المصالحة مع لبنان والرئيس سعد الحريري. وهي عاجلاً أم آجلاً ستتصالح مع مصر. لا يمكن لدمشق أن تنفتح على دائرة دون أخرى خصوصاً وأنها متداخلة ومتشابكة. هذه العملية التي يطلق عليها البعض سياسة استرداد سوريا لعروبتها، تقوي دمشق وتفتح أمامها آفاق المستقبل في المجالات السياسية والعسكرية وخصوصاً الاقتصادية.
[ لا يمكن عزل العامل الاقتصادي عن المسار السوري الجديد. وضع الاقتصاد السوري صعب. الجفاف شديد. أبرز نتائجه ارتفاع الحاجة الى استيراد القمح وكلفته العالية من جهة، وانخفاض انتاج النفط وعائداته ومن ثم ارتفاع كلفة استيراد النفط للحاجات الداخلية بكل أعبائه المالية من جهة أخرى.
الأزمة الايرانية العميقة
كلما تقدمت دمشق خطوة على مسار التغيير والانفتاح، تغيرت طبيعة العلاقات مع إيران. الحوار مع واشنطن وتطبيع العلاقات معها هدف استراتيجي لدمشق، وليس مجرد تكتيك. صحيح أن طهران لا تمانع الحوار مع واشنطن وهي تتحاور معها سراً وعلانية، لكن المفاوضات ما زالت بعيدة، لأن لإيران مطالب ضخمة تراوح بين تشريع تملكها للطاقة النووية وتخصيب الاورانيوم لتصل الى تشريع دورها الاقليمي في الشرق الأوسط أي من أفغانستان الى شواطئ البحر المتوسط. دمشق لها مطالب أيضاً لكنها تبقى متواضعة بالنسبة لإيران.
أمام هذا كله فإن صيغة العلاقة بين دمشق وطهران تتغير. لا يعني هذا الطلاق أو الافتراق في القريب العاجل ولا في المستقبل المنظور. طالما لم تطمئن دمشق مئة في المئة للتغيير الأميركي بالنسبة اليها فإنها لن تتخلى عن طهران. لم تستنفد دمشق حاجاتها وأهدافها من هذه العلاقة، ثبات هذه العلاقة يمكن استثماره دائماً، خصوصاً على صعيد رفع كلفة الافتراق. أقل ما يمكن أن تحصل عليه دمشق لتأكيد التغيير، الانسحاب الإسرائيلي الكامل الى حدود 4 حزيران 1967 في الجولان، حتى تكتمل المطالب السورية، ومساعدات مالية بالمليارات.
هذا الموقف لا يعني عدم التمايز حول الملفات. الانتماء المختلف في إطار منطقة الشرق الأوسط يفرض ذلك. دمشق مع المقاومة في لبنان وفلسطين، ومع عراق عربي موحد انطلاقاً من كونها دولة عربية وعروبية. علاقة طهران مختلفة جداً حتى ولو كانت العلاقة ايديولوجية إسلامية مع المقاومة، إلا أن ذلك لا يحول دون الاختلاف والخلاف. أيضاً طهران تفضل عراقاً فيدرالياً يسمح لها بتمدد نفوذها هنا وهناك. التمايز أيضاً واضح في اليمن. دمشق انحازت كلياً الى جانب السعودية وضد الحوثيين. موقف إيران مختلف، لأن في تفكيك المجتمعات العربية والشرق أوسطية يكمن النفوذ الإيراني الذي يمكن استثماره جيداً على طاولة المفاوضات.
ما يعزز ذلك أن الأزمة في إيران عميقة وهي تزداد يومياً عمقاً. إيران شاءت أم أبت أصبحت مشغولة ومنشغلة أكثر بأزماتها الداخلية. طبعاً دمشق تريد خروج إيران من أزمتها لأن لها مصلحة مع إيران، قوية. ما يؤكد ذلك أن دمشق ذات النظام المركزي الشديد كانت تتعامل منذ الثورة مع نظام إيراني أكثر مركزية.
حالياً، دمشق تتابع بحذر شديد، وأحياناً بقلق التحولات داخل النظام الإيراني. الأزمة أفرزت أربعة مراكز قوى في طهران: المرشد آية الله علي خامنئي. الرئيس أحمدي نجاد، علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى وشقيقه آية الله لاريجاني، وأخيراً رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الشيخ هاشمي رفسنجاني. هذا دون تناسي المعارضة بأطيافها التي تتراوح من الانتفاضة الخضراء وصولاً الى المجموعات الرافضة للنظام كله. ما يرفع من منسوب دقة الوضع أن الأزمة ما زالت طويلة وأنها كلما طالت يصبح اللعب من الخارج فيها أسهل.
ما زال تيار واسع يرى أن العلاقات بين طهران ودمشق عميقة جداً، وأن ما قامت عليه أصلب وأمتن من أن يهزها أي تغيير محدود. ذلك أن طهران تتفهم حاجات دمشق لتطبيع علاقاتها مع واشنطن، وهي تعتقد أن المفاوضات مع إسرائيل غير منتجة لأنها قبر بلا ميت، وأن دمشق بمطالبتها اليومية بالحل السلمي تقوي موقفها خصوصاً وأن الرفض الإسرائيلي مستمر ومضمون. الخلاصة، إن ما يحصل علناً مجرد تنسيق أدوار ولعب مسموح في المرحلة القادمة.
النتائج هي التي ستؤكد حقيقة ما يحصل!
[email protected]

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00