بدأ العد العكسي لاستصدار قرار دولي لتشديد العقوبات ضدّ إيران. واشنطن وباريس تقودان معركة الحشد الدولي، رغم التفاوت بينهما في الموقع والدور والحماسة والسرعة والمضمون. المحادثات التي ستجري اليوم في نيويورك تشارك فيها الدول الكبرى، وهي للدراسة وجس نبض متبادل خصوصاً بين الدول الأعضاء في مجلس الأمن. الصين تحفّظت، لن ترسل بكين ممثلاً عنها قادراً على اتخاذ القرار. الصينيون ما زالوا يريدون مزيداً من الحوار مع طهران قبل الانخراط في مسار التصعيد واستصدار قرار بتشديد العقوبات. المسألة بالنسبة لهم مسألة مصالح أولاً. قبل أي بحث بكين تريد معرفة الضمانات الكافية لصيانة مصالحها. في جميع الأحوال الاجتماع سيكون مفيداً حسب رأي الخارجية الأميركية.
العقوبات تقوّي النظام
لو لم يكن الانقسام موجوداً على صعد عدة، كان القرار الدولي صدر وإيران محاصرة منذ مطلع هذا العام، حسب كل المهل التي أُعطيت لها. الصين ليست المعارِضة الوحيدة، روسيا أيضاً تعارض، لكنها أكثر اعتدالاً في إعلان معارضتها. موسكو تعمل في علاقاتها مع واشنطن، على تدوير الزوايا حتى لا تصطدم معها، ولا تخسر طهران. بكين بخلافها في موقع قوّة، لذلك يمكنها أن تقول لا عالية.
الانقسام أو ما يقوله الديبلوماسيون بلغتهم الديبلوماسية الاختلاف في الرأي لا يعني الخلاف. بالمبدأ نحن متفقون حول ضرورة الضغط على إيران لتتخلى عن موقفها المتشدّد المفتوح على إمكانية تصنيع سلاح نووي مرفوض من الجميع، بما فيه موسكو وبكين. الاختلاف يدور حول مهلة الحوار وطبيعة القرار ومضمونه وآلية تنفيذه، صورة الاختلافات أصبحت أوضح بكثير بعيداً عن موسكو وبكين:
الولايات المتحدة الأميركية: الافتراق داخلياً واضح جداً. الإدارة الأوباميّة ترى أن إصدار عقوبات قاسية ضدّ إيران سيشكّل رسالة سيّئة جداً للشعب الإيراني كله وتجعله يلتف ولو مؤقتاً حول النظام. باختصار مثل هذه العقوبات ستخدم النظام الإيراني وتُضعف المعارضة. أيضاً تعلّق الإدارة الأوباميّة، حسب باريس، آمالها الكبيرة على حركة المعارضة وقدرتها على تغيير النظام في المستقبل المنظور، بينما الكونغرس يبدو أكثر تشدداً. وقد بادر باتخاذ قرار تصعيدي ضدّ صناعة النفط في إيران وكل مَن يتعاون معها من الشركات، وهو يريد التصعيد أكثر. ما يساهم في هذا التشدّد داخل الكونغرس قوة اللوبي اليهودي واقتراب استحقاق الانتخابات النصفية.
فرنسياً، رغم أنّ وزير الخارجية برنار كوشنير وديبلوماسييه تابعون سيادياً للرئيس نيكولا ساركوزي، إلا أنّ التباعد بين موقفَي الكي دورسيه والاليزيه يزداد وضوحاً.
كوشنير وديبلوماسييه يرون أنّ الإصلاحيين ليسوا على علاقة مع الغرب، وهم لديهم أسبابهم ومواقفهم للمعارضة، بحركتهم الاعتراضية استطاعوا حماية الشعب الإيراني من العقوبات القاسية. ولذلك يجب التعامل مع إيران بحذر شديد، من خلال تشجيع المعارضة والدفع نحو خلق ديناميكية تساهم في تسريع التغيير من دون أن يستثمر النظام هذا التوجّه. حتى الآن الانقسام حاصل داخل المؤسسة الدينية. المعارضة المعلنة لبقاء ولاية الفقيه مطلقة، وهي إشارة مهمّة للتطورات القادمة. أخيراً تعترف الديبلوماسية الفرنسية أنه لا يوجد خلاف بين النظام والمعارضة حول الملف النووي. حتى لو جاء غداً مير حسين موسوي فإنه سيكون أكثر تشدّداً في كل ما يتعلق بالملف النووي. الاليزيه يرى أن العقوبات هي التي تغيّر موقف النظام الإيراني، وهي وحدها نجحت في إبطاء البرنامج النووي. لذلك يجب العمل على إصدار قرار قاسٍ جداً.
واشنطن أو باريس على حد سواء لن تجعل من هذه الاختلافات عقبة قوية ضدّ اتخاذ القرارات المناسبة. في باريس يرون أنّ قرار تشديد العقوبات يجب أن يصدر أمام الممانعة المتعنتة لطهران. حالياً يمكن التوصل إلى تفاهم بين القوى الداخلية في كل دولة، ومن ثم مع باقي الدول على إصدار عقوبات ذكيّة أي لا تؤذي الشعب الإيراني، وتؤدي إلى تضييق وشلّ حركة القيادات العسكرية والأمنية والسياسية والمالية التي لها علاقة بالملف النووي من جهة وإدارة سياسة القمع داخلياً من جهة أخرى.
الاشتباك المحدود
كيف تواجه طهران هذا التوجه الغربي نحو الاشتباك المحدود معها؟
النظام الإيراني مطمئن إلى أنّ الحرب ضدّ إيران صعبة جداً. باختصار الموقف الإيراني يتشكّل تحت مظلة غياب احتمال الحرب الشاملة ضدّ إيران، لذلك يتحرّك النظام واثقاً من قدرته على مواجهة العقوبات سواء كانت واسعة ومتشدّدة أو ذكيّة. الإيرانيون يعتبرون أنّهم ليسوا العراق الذي نجح الحصار في تفكيك قوّته وتصعيد المعارضة الشعبية ضدّه إلى درجة التعاون مع الجيش الأميركي. الحدود بين إيران ومحيطها مفتوحة مهما كان التزام الحكومات حقيقياً أو جدّياً بالقرار الدولي الصادر. الكلفة هي التي سترتفع، من الممكن تحويل أرصدة النفط نحو سدّ حاجات البلاد حتى من البنزين إذا ما بدأت حرب البنزين. النتيجة تشكل قناعة راسخة لدى النظام خصوصاً لدى المرشد آية الله علي خامنئي: مَن يتراخى الآن يخسر قبل الجلوس حول طاولة المفاوضات.
أبعد من ذلك، الرئيس أحمدي نجاد قال في ندوة مغلقة حول الحرب النفسية عُقدت في طهران في الأسابيع الأخيرة: الغرب يحدّد مساحة الملعب وحدوده وقواعد اللعبة، ثم يطلب منّا الدخول إلى الملعب لنلعب ضدّه، نحن لا نقبل بتصميم الملعب ولا باللعب على أساس القواعد التي حدّدها، نحن لنا رأي وموقف حول كل ذلك، هم قالوا لنا أمامكم مهلة حتى آخر العام 2009 للردّ إيجاباً على عرضنا، بعد ذلك انتظروا العقوبات وأحياناً على لسان بعض المسؤولين. نحن قلنا لهم، أمامكم مهلة للردّ على عرضنا حتى آخر شهر كانون الثاني، إذا لم نتلق جواباً إيجابياً منكم سنخصّب حسب شروطنا وحاجاتنا ولنحصل على أورانيوم مخصب بنسبة تصل إلى عشرين بالمئة.
من الآن وحتى تبدأ المفاوضات الجدّية والعلنية، لأنه حالياً رغم التصعيد تجري تحت الطاولة وعبر الزيارات الرسمية والديبلوماسية (آخرها زيارة علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى والمشرف على الملف النووي سابقاً إلى طوكيو) محادثات تعمل على تضييق شقّة الخلافات وتضييق دوائر التباعد. على الأرجح نجاح هذه الاتصالات سينتج كما يبدو انفتاح الإدارة الأوباميّة الكبير باتجاه التفاهم مع طهران خطوة خطوة.
هذا لا يكفي لطمأنة طهران. النظام الإيراني يعرف جيداً أنّ حرباً مزدوجة تشنّ عليه. الأولى الحرب الناعمة عبر دعم مطالب الأقليات البلوشية والاذرية والكردية والعربية بالمساواة مع الفرس. أو الحرب الخفيّة، حيث تتحرك الأجهزة الأمنية في الظلام. هدف هذه الحرب إحداث ثغرات علمية وتقنية في المشروع النووي الإيراني لتعطيله جزئياً على الأقل. من أخطر العمليات اغتيال مسعود محمدي العالِم النووي. مصادر فرنسية تؤكد أن المشروع النووي الإيراني خسر حتى الآن 11 عالِماً أو خبيراً أو إدارياً، الخسارة جرت إما بالاغتيال أو اللجوء إلى الخارج بعد مغريات كبيرة أو بالاعتقال كما جرى مع مجيد افخمكنداري الموقوف في باريس تحضيراً لتسليمه إلى واشنطن.
أخطر مرحلة بدأت. مهما كان الخلاف حول الملعب وقواعد اللعبة فإن أمراً واحداً مؤكداً هو أنّ الشرق الأوسط في قلب هذا الملعب، والمفاوضات بالنار خلال هذا الوقت الضائع تدعو إلى الحذر الشديد من الجميع خصوصاً لبنان لأنه أضعف الحلقات رغم وجوده تحت مظلة حماية عربية واقليمية ودولية.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.