كثيرون من المؤثرين في صوغ القرارات في منطقة الشرق الأوسط يرون ان الحرب واقعة لا محالة بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الاسلامية في ايران، ان لم تكن غداً فبعد غد. هذا الاعتقاد الذي يصل أحياناً الى حد اليقين، يستند الى قراءة مختلفة جداً عن القراءات المتداولة للأوضاع، وهي تنطلق من الماضي القريب لتقفز الى المستقبل القريب جداً.
يعترض هؤلاء ان المرحلة القادمة التي ستمتد الى مطلع الصيف وربما حتى آخره، مليئة بالاستحقاقات التي تصب كلها في طاحونة الحلول السياسية التي سينطلق قطارها فور تقدم الرئيس باراك أوباما بمبادرته للسلام واطلاقه لصفارة المسار الفلسطيني - الاسرائيلي تمهيداً لفتح المسارين السوري واللبناني. في هذه الفترة سيكتشف أوباما انه لا يمكن التعايش مع التصعيد الايراني، وخصوصاً أن اسرائيل ستعمل في كل لحظة على صب الزيت على النار تحت شعار يثير دوماً مخاوف الغرب، وهو: ايران أحمدي نجاد تريد ارتكاب محرقة ثانية بحق اليهود مما يعني ضرب قلب المحرمات التي ورثها القرن الواحد والعشرون من سابقه. الى جانب ذلك فإن هذا الاصرار يستند لقراءة توصف بأنها واقعية للأحداث التي توالت منذ حرب عاصفة الصحراء في العام 1991 حتى الآن.
الإمساك الأميركي بمنابع النفط وممراته
يشدد أصحاب هذه القراءة، ان المنطقة شهدت في هذا العقد مع مقدمات سبقته في العقد الأخير من القرن الماضي مواجهة مفتوحة بين مشروع أميركي متكامل، وقوى ممانعة عملت على الصمود دون أن تملك مشروعاً جدياً للمستقبل يمكن على أساسه القول إنها خسرت أو ربحت. المشروع الأميركي يقوم على ركيزتين متداخلتين ومتكاملتين.
* الأولى السيطرة والامساك بحقول النفط ومنابعه في منطقة الشرق الأوسط، وقد نجحت عملياً في ذلك فالجيوش الأميركية وقواعدها منتشرة حيث منابع النفط.
* الثانية الإمساك بممرات النفط وأنابيبه في المنطقة ومنها الى الآخرين خصوصاً في أوروبا. هذه العملية لم تكلل حتى الآن بالنجاح بسبب استمرار حالة الأفغنة على رأس قوس الأزمات الاسلامي.
أيضاً الولايات المتحدة الأميركية قامت أو دعمت عدة حروب خصوصاً الاسرائيلية منها، حققت بعض النجاحات التي تبدو أحياناً محدوده لكنها مهمة. حاصرت الولايات المتحدة الأميركية سوريا ونجحت في ترويضها الى درجة أنها أصبحت تلح يومياً على ضرورة تطبيع علاقاتها معها، وقد عمدت واشنطن الى تقديم بعض الاشارات لدمشق تؤكد على رفع منسوب الجوائز لها مستقبلاً.
كما ان اسرائيل شنت حربها على لبنان في تموز 2006، واذا كان حزب الله والمقاومة نجحا في الصمود، الا ان القرار 1701، نجح في تقييد حركة المقاومة لأنها أصبحت تحت المراقبة الجوية والبرية والبحرية. حركة المقاومة أصبحت دائمة الحذر ودقيقة. الخطأ في أي حركة مكلف جداً. كما أدى الاتفاق الى تحويل سلاح الصواريخ من سلاح ردع مباشر الى سلاح احترازي مهما كان عدده ونوعيته. وتبقى حماس، فإن الحرب الاسرائيلية نجحت في تضييق الحصار عليها في غزة ودفعتها للالتزام بالتهدئة، والالتفات نحو الحدود مع مصر لفك الحصار الغذائي والمالي عنها فكانت النتيجة الاشتباك مع مصر مباشرة. ما رفع حرارة هذا الاشتباك وجود أسباب مصرية داخلية تتعلق بالعلاقة مع تنظيم الاخوان المسلمين، فوقعت غزة المضرجة بجروح الرصاص المسكوب ضحية جديدة لكل ذلك.
اذا تمت قراءة كل ذلك بواقعية وموضوعية، تكون النتيجة ان المشروع الأميركي تلقى ضربات مباشرة وقوية أحياناً، لكنه ما زال قائماً ومتأهباً وقادراً في لحظة يأس من الحلول السياسية ان يتجه عكس ما يقوم وأن يضرب بقوة وقسوة شديدتين. بعد العمل على تقليم أظفار إيران تأتي مرحلة ضربها في العمق وخصوصاً أن كل الأسباب الموجبة لذلك موجودة بسبب تصرفاتها والرغبات الكامنة لدى كل الخائفين منها والقلقين منها أو أخيراً المؤيدين لاسرائيل.
ما يعزز هذا كله ان واشنطن سبق لها أن أزهقت بدون شفقة ولا تردد نظام صدام حسين في العراق برغم انخراطه في حرب استنزافية ومكلفة ضد ايران. السبب في قسوة الكاوبوي الأميركي، أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لم يستوعب ان هذا الكاوبوي لم يعد بحاجة له للامساك بالمنطقة ولذلك عليه أن يتواضع ويعمل تحت مظلته وليس خارجها، على أساس انه قوة عظمى في المنطقة على قدم المساواة معه.
دمشق استوعبت الدرس
هنا تكتمل القراءة بأن دمشق استوعبت الدرس لأنها لا تغامر مطلقاً فانفتحت برغبة شديدة ومعلنة على واشنطن وقبلت التعامل معها بسياسة الخطوة خطوة، بدلاً من التطبيع الفوري. لذلك كله، فإن تحول العلاقات بين دمشق وأنقرة الى علاقات استراتيجية تحصن الحاضر وتحمي المستقبل. لدمشق مستقبلاً تركيا هي البديل حتى لو كانت اليوم تشكل قوة موازنة للقوة الايرانية.
بعيداً من القراءات للأحداث، فإن بعض الاشارات تثير النقزة لدى المحللين الاستراتيجيين من ذلك ان مراكز الأبحاث والدراسات تكثف قراءاتها لاحتمالات الحرب بدلاً من السلام مع طهران. مركز الاجراءات الوقائية التابع لمجلس العلاقات الخارجية قدم دراسة واسعة بعنوان ضربة اسرائيلية محتملة لايران نشر موقع تقرير الأميركي ملخصاً لها. منها:
ان البيت الأبيض سيضطر في النهاية الى اعطاء الضوء البرتقالي للجيش الاسرائيلي لشن هجمات جوية ضد المراكز النووية الايرانية، وان هذا الهجوم يستند الى مناورات مكثفة تجري بشكل متوال، ومنها واحدة قامت خلالها مئة طائرة اسرائيلية مع هجوم بعيد المدى مع تزويد الطائرات بالوقود في الجو اضافة الى مناورات انقاذ قامت بها طائرات الهليكوبتر، وإرسال غواصة أو أكثر عبر قناة السويس العام الماضي لتوجيه رسالة انها قادرة أيضاً على العمل في أعالي البحار أو غيرها خصوصاً على منع البحرية الايرانية من اقفال مضيق هرمز لضرب الامدادات النفطية، أخيراً القيام بمناورات داخلية لتدريب السكان على مواجهة القصف الصاروخي وحتى الحرب البيولوجية وغيرها.
الدراسة دخلت في تفاصيل ما يجب أن تفعله واشنطن لدعم خيار الحرب الاسرائيلية. من ذلك مناقشة العراق حول ردة فعله في حال حصول هذا الهجوم، والمطالبة برفع الدول المنتجة للنفط من انتاجها لسد نقص النفط الايراني، وتكثيف العمليات الاستخباراتية ضد حزب الله. لكن الغريب ان الدراسة، وهي تصل الى خلاصة بأن العملية الاسرائيلية، اذا وقعت ونجحت، فإنها ستكون عملياً من نوع جز العشب. أي ان العشب سينبت من جديد وسيكون أكثر تحصيناً وقدرة على المقاومة، فإنها لم تُشر من قريب أو بعيد عن ردة الفعل الايرانية عسكرياً في المنطقة.
هذه الدراسة النظرية تدعمها تحركات عملانية من دول متشددة ضد ايران، استناداً الى مصدر مطلع في باريس، فإن القوات الجوية الفرنسية قامت بمناورة ضخمة لضرب أهداف بعيدة وقد شاركت في المناورة طائرات من اسلحة جوية عربية لعبت دور المعترض. رغم ذلك نجحت الطائرات الفرنسية في قصف الأهداف المحددة التي هي على غرار المواقع النووية الايرانية.
على الأقل يصعب جداً ان تقدم اسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أو معاً على شن حرب واسعة على إيران هذا العام لأنه عام المبادرات السلمية. لكن ذلك لا يمنع الحديث عن عد عكسي يبدأ عملياً مع مطلع الخريف المقبل اذا فشلت كل المحاولات بما فيها العقوبات الشديدة والمشددة التي ستصدر ضد ايران، وإذا لم يقرأ الرئيس أحمدي نجاد جيداً ما حصل مع صدام حسين، فأحنى رأسه قليلاً أمام العاصفة، وخصوصاً أن مصير منطقة الشرق الأوسط من مصير ايران.
e-mail: [email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.