الجمود القائم حالياً في لبنان وباقي المنطقة، هو نوع من التجميد المدروس. ليس لبنان وحده وإنما باقي دول المنطقة أمام ثلاثة استحقاقات دقيقة وحسّاسة لا بل مصيرية، وهي: الانتخابات التشريعية العراقية، والمصالحة المصرية- السورية وضُمنها المصالحة الفلسطينية الفلسطينية وقرار تشديد العقوبات على إيران. أهمّ ما في هذا كله انّ التعامل مع نتائج هذه الاستحقاقات يتوافق مع اقتراب انعقاد القمة العربيّة في طرابلس الغرب. السؤال الكبير الحالي: هل تنعقد القمّة لأنّها واجب متعارف عليه عربياً، أم أنّها ستكون قمّة تشهد تحوّلات أساسيّة تنتج مستقبلاً ثوابت يمكن أن يصاغ عليها مواقف واستعدادات حقيقية للتعامل الجاد والمنتج مع الرياح الساخنة القادمة على المنطقة مستقبلاً؟
أي عراق بعد الانتخابات؟
الانتخابات العراقية مهمّة جداً هذه المرّة، لأنّها الأخيرة في زمن الاحتلال الأميركي المباشر. نتائجها ستؤشر حكماً نحو أي عراق سيقوم من تحت الرماد. ليس المقصود أنّ هذه الطبقة السياسية التي وُلدت في ظلال الاحتلال، هي المسؤولة وحدها عن صياغة المستقبل وقادرة على ذلك كما يريد العراقيون. ولكن لأنّ في مسار هذه الانتخابات تكمن التحوّلات والتحالفات العربيّة والاقليمية. موقف دمشق مهم جداً في هذه الانتخابات. دمشق تشدّد على أنّها تريد عراقاً عربياً موحّداً. تنفيذ هذا التوجّه هو الاستحقاق الكبير في المصالحة السعودية السورية بعد لبنان. ليس مطلوباً أن تدخل دمشق في خلاف أو حتى اختلاف مع طهران حول هذا الخيار. المفروض أن تدفع دمشق طهران نحو خيار عراق موحّد وقوي. هذا العراق ليس بالضرورة على عداء معها. الجميع فهم في العراق أنّ روابط الجغرافيا قويّة ومفاعيلها أقوى، خصوصاً بامتزاجها مع الروابط الاجتماعية وحتى المذهبية.
لن تكون للعراق قيامة، إذا لم تعقد علاقات ثابتة وقوية بين الشيعة والسنّة والأكراد. كل كلام خارج هذه القاعدة، ليس أكثر من طحن للهواء، ومقدمات طبيعية لإشعال حروب أهلية تؤكد أنّ العرقنة ليست حالة مؤقتة وإنما ثابتة وطريق للتفتيت على مستوى المنطقة وليس العراق وحده. كذلك من الواضح أنّ فشل الانتخابات المقبلة في العراق قد يدفع القوى الحليفة للعراق وهي اقليمياً وعربياً: سوريا والسعودية وتركيا وإيران، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة الأميركية، نحو الانزلاق فرادى ومجتمعين إلى الخيار الانقلابي على يد جنرال طموح يكرّر بشكل أو بآخر مرحلة الستينيات.
المصالحة السورية المصرية، كثيرون يعملون عليها. السعودية في المقدمة. دون إتمام هذه المصالحة، لن يتكامل العمل العربي المشترك. لكل من دمشق والقاهرة شروطها ومواقفها وأهدافها. المسألة أكثر تعقيداً مما تبدو. القاهرة تريد ضمان خاصرتها الضعيفة في غزة، مثلما فرضت دمشق رؤيتها انطلاقاً من العلاقة الجغرافية على الآخرين موقفها من المصالحة حول لبنان ومعه، تريد القاهرة الحصول على هذا التسليم تحت البند نفسه في غزة. المصالحة الفلسطينية الفلسطينية يجب أن تتم في القاهرة تحت رعايتها، وإلا لا مصالحة.
مهما كابرت قيادة حماس في الخارج بأنّه لا يوجد خلاف بين الداخل والخارج، فإنّ الاختلاف واقع لأنّ دمشق ليست فندقاً للقيادات الفلسطينية في الخارج. من الطبيعي أن تكون شريكة بنسبة مختلفة مع هذه القيادات حول كل ما يعنيها. أيضاً من الطبيعي أنّ قيادة الداخل في حماس تعاني ميدانياً وتستشعر أكثر مع الناس خطورة الحصار المفروض على غزة والدمار المستمر فيها منذ عام أي غداة حرب الرصاص المسكوب الإسرائيلية. هذه المصالحة يجب أن تتم قبل القمّة العربيّة حتى يصبح لمناقشة القضية الفلسطينية ومستجداتها معنى وترجمة فعلية لها في مختلف القرارات استعداداً للمرحلة المقبلة. لا يمكن مطالبة إدارة باراك اوباما بالتحرّك والعمل لفتح مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، والمصالحة الفلسطينية الفلسطينية لم تتم. مطلوب قيادة فلسطينية تمتلك الشرعية ووحدة القرار ومساندة الشعب الفلسطيني كله لخوض غمار معركة المفاوضات. لا شيء يضمن نهاية سعيدة لأي مفاوضات مقبلة. لكن على الأقل لا يستطيع الإسرائيلي أن يضع المسؤولية على غياب المحاور الفلسطيني، ولا أن تعفي الإدارة الأميركية نفسها من المسؤولية بحجّة أنّ اليد الواحدة لا تُصفّق، وانها فعلت ما في وسعها، وأنّ المشكلة في غياب الطرف الفلسطيني.
ماذا تريد دمشق من القاهرة؟
لا شك ان معرفة ماذا تريد دمشق من مصر والعكس صحيح مهم جداً. لا يبدو أنّ دمشق مستعدّة لوضع مطالبها على الطاولة قبل معرفة قدرة مصر على التعامل معها. أيضاً مصر لم تقل ماذا تريد من دمشق غير رغبتها في إنجاز الحل على الطريقة المصرية، وفي اطار البيت المصري. القاهرة، كما أصبح معروفاً، تريد على الصعيد الفلسطيني دفع مسار المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الحل على هذا المسار مهم جداً للأمن القومي المصري حالياً ومستقبلاً.
مصر ليست مستعدة وترفض بالثلاث مبادلة أي أراض فلسطينية بأراض مصرية في سيناء. أرض مصر مقدّسة وهذا حق من حقوق مصر في التعامل مع هذا الاحتمال بمثل هذا التشدّد. لكن يبدو أنّ مصر التي تعرف أنّ حماس ومعها التنظيم الدولي لـالاخوان المسلمين يتغذون من الوضع الاقتصادي الصعب وحتى المهين للفلسطينيين في غزة، تريد أن تشكّل منفذاً اقتصادياً لأهالي غزة ينتعشون منه وتستفيد منه مصر تنموياً في منطقة سيناء المحتاجة لها. هنا مصادر عربية تنقل أنّ لدى القاهرة مشروعاً لإقامة منطقة حرّة وصناعية على الحدود مع غزة، على قاعدة شراكة مصرية فلسطينية مالياً واستثمارياً. نجاح مثل هذا المشروع يمكن أن يكون مثالاً حيّاً لعلاقات شراكة مستقبلية على الحدود المشتركة لباقي الدول العربيّة بما فيها مصر مع السودان وليبيا.
صدور قرار دولي بتشديد العقوبات على إيران، مسألة وقت. تصعيد الرئيس أحمدي نجاد في عيد الثورة بكل ما يتعلق بالملف النووي، إلى درجة الإعلان عن قدرة إيران التخصيب مئة بالمئة محرج جداً لمجموعة دول الخمس زائداً واحداً. من الممكن أن تحول الصين في الفترة المقبلة دون صدور قرار دولي ضد إيران، خصوصاً إذا ما ارتفع منسوب التوتر بينها وبين واشنطن مع إتمام زيارة الدالاي لاما للبيت الأبيض في 18 من شباط الجاري. في تقدير لمختلف الأوساط المتابعة للملف النووي انّ القرار الدولي سيصدر في حزيران المقبل مع مرور عام كامل على الانتخابات الرئاسية الإيرانية. لذلك سيكون النصف الثاني من هذا العام تجربة صعبة لإيران ولمختلف الأطراف المعنية في المنطقة. من الطبيعي والضروري أن يعرف العرب ماذا سيفعلون في مواجهة هذا الاحتمال القائم. القمّة العربيّة تشكّل أفضل مناسبة للتدارس المباشر بين القوى العربيّة خصوصاً بين الرياض والقاهرة من جهة ودمشق من جهة أخرى حول صيغ التعامل الجماعي مع هكذا تطوّر مفصلي.
بعد القمة قد ينكسر جليد الجمود القائم حالياً، خصوصاً إذا نجحت مسارات المصالحة. بالنسبة للبنان، من الطبيعي والمتوقع أن تفتح فيه بعض المسارات الداخلية فيتم الاتفاق والتوافق على صدور قرارات تنعش الدولة وتنهض بها.
من المؤلم جداً أن تأتي ذكرى 14 شباط التي استشهد فيها رفيق الحريري صاحب مشروع بناء الدولة اللبنانية العصرية، وهذه الدولة أسيرة استحقاقات أكثرها خارجية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.