8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الانتخابات أفرزت عودة السنّة ومشاركتهم وتراجع الأحزاب المذهبية الشيعية وتشكيل الحكومة يتطلب الوقت والتنازلات من الجميع

الشعب العراقي قال كلمته. أقبل على الانتخابات التشريعية واقترع بكثافة. لم يخف من التهديدات ولا التفجيرات، فأكد بصوت عالٍ سمعه العالم كله وليس منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، أن خياره الكبير هو الديموقراطية وتداول السلطة بين القوى والاحزاب السياسية في عراق تركيبته الفسيفسائية محترمة، دون السقوط في مستنقع الطائفية، وإمساك أي فريق مهما بلغت قوته أوردة الحياة السياسية والاقتصادية.
هذا النجاح لا يعني مطلقاً أن العراق دخل مرحلة وردية. ظروفه وتركيبة احزابه وقواه، والوضع الاقليمي، والاحتلال الأميركي وانتهاء الوجود العسكري الأميركي فيه، كل ذلك، يجعل من هذا النجاح خطوة كبيرة وجبارة باتجاه المستقبل على طريق التغيير. من الآن وحتى تكتمل النتائج، فإن العراق كله يمر في مرحلة من الوقت الضائع الغنية بكل الافتراضات والاحتمالات، بعد ذلك تأتي مرحلة المفاوضات التي لن تنتهي بسرعة. التداخل الحاد والعميق بين الداخل العراقي والخارج الاقليمي الأميركي، يفرض رحلة طويلة من المفاوضات المعقدة وصولاً الى صياغة للسلطة قد لا تكون لها علاقة حقيقية بوقائع الانتخابات ونتائجها، على غرار لبنان وانتخاباته التشريعية وصولاً الى تشكيل الحكومة الوفاقية فيه 15 + 10 + 5.
بين الوقائع والاحتمالات
بعيداً عن الاحتمالات والتوقعات، فإن الانتخابات أفرزت وقائع مهمة تشكل حكماً اضاءات قوية على طريق ولادة العراق الجديد، من هذه الوقائع:
[ إن العرقنة قد سقطت بقوة. العراق الفسيفسائي التركيبة العرقية والقومية والدينية والمذهبية، لم ينفجر، ولم يغرق في مستنقع الحروب الأهلية التي كان بعضها مرسوماً له وأكثرها موجه ومدار ومضخوخ من الخارج عدة وعديداً. لو كان العراق مثل لبنان لما خرج من العرقنة في خلال عامين من الدماء والدموع. الطائفية فيه ليست مرضاً كما في لبنان التي اغتالت أفضل سنوات اجياله المتعددة في نيران اللبننة. من الواضح أن العراقيين تفوقوا على أنفسهم، ساعدهم في ذلك، خصوصية نسيجهم الاجتماعي المركب في أساسه على علاقات عشائرية تختلط فيها الانتماءات المذهبية التي ابقت رابطة الدماء فيها أقوى الروابط وأرسخها.
[ ان السنّة في اقبالهم القوي والعلني، رغم التهديدات الارهابية من القاعدة، على صناديق الاقتراع أكدوا وقدموا الدليل على رغبتهم بالمشاركة في العملية السياسية. اجتاز السنة في العراق محنة السنوات الخمس الماضية، أكدوا انفصالهم عن الارهاب والقاعدة دون ان يتخلوا عن المقاومة. وعملوا على تثبيت حقهم بالشراكة في صناعة العراق من خلال الانخراط في صياغة السلطة الجديدة مهما كانت التحفظات كبيرة عليها. ما يعزز هذا التوجه، أن السلطة التي ستشكل لن تكون أكثر من حلقة في سلسلة طويلة قابلة للصياغات الجديدة تبعاً للتحولات النابعة من الداخل العراقي وتلك القادمة من الخارج. عودة السنة الى مسار تشكيل السلطة في العراق يؤكد مرة أخرى وربما نهائية، انه لا يمكن أن تحكم العراق كما في لبنان قوة طائفية أو مذهبية أو عرقية وحدها، كذلك لا يمكن لأي قوة أو طائفة مهما بلغت قوتها الطبيعية أو المستوردة أن تستبعد أي طرف مهما بلغ ضعفه أو إحباطه. يكون العراق كما لبنان، لكل أبنائه وطوائفه وأعراقه أو لا يكون.
[ أكد مسار الانتخابات وحتى بعض نتائجها تراجع القوى الحزبية المذهبية عند الشيعة، ذلك ان المالكي وإن كان باسم حزب الدعوة قد تقدم بالأصوات التي كسبها بسبب طرحه المتعلق بقيام دولة القانون وليس بسبب انتمائه الحزبي المذهبي، بينما القوى الأقوى سواء المجلس أو الصدريين، فإنها خسرت كثيراً، إما بسبب ممارساتها في السلطة وفي الإدارة أو لأنها لم تخرج من قوقعتها المذهبية.
[ إيران، وإن كانت حاضرة بقوة في قلب النسيج العراقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإنّ تشكل العراق الجديد الذي بدأ مع الانتخابات التشريعية يؤكد على استمرار بقاء النافذة الإيرانية مفتوحة عليه، تتبادل معه التأثير المشترك خصوصاً وأن النجف يبقى حلقة أساسية في هذه العملية التبادلية، لكن ذلك لا يعني ان يكون العراق مساحة مفتوحة أمام قرارها.
سقوط العرقنة
هذه الوقائع لا تعني ان العراق قد خرج من غرفة العناية الفائقة. العراق ما زال مريضاً، بحاجة لوقت طويل لكي يشفى ويعود العراق الصحيح القادر على الفعل والتأثير. خلال هذه الفترة الانتقالية العلاجية، سيتعرض العراق لمزيد من التجارب الأليمة، لن تتركه القاعدة وأنصارها، والتجاذبات الاقليمية، والضغوط الأميركية والمزاحمات والتنافسات الدولية، حراً، طليقاً ليتعالج بهدوء ولينهي فترة من النقاهة الضرورية. خلال هذه المرحلة الانتقالية ستسقط قوى وتنضج أخرى، وتموت خيارات لتولد أخرى. مخاض ولادة العراق الجديد طويل وهو من قلب النار والحديد والدماء والدموع.
من الوقائع إلى الاحتمالات، لن تفوز أي قائمة بالأغلبية التي تمكنها فرض خياراتها في القيادات والخيارات السياسية على الآخرين. أكثر من ذلك، ما لم يحدث تحوّل انقلابي مفاجئ في النتائج، لن تحصل أي قائمة على أكثر من تسعين مقعداً، وبالتالي تسمية الرئيس الجديد للوزراء سيكون خاضعاً للمفاوضات لأنه سيكون جزءاً من سلة السلطة. هذا الوضع يطرح أطراً للمفاوضات وصيغاً متعددة الاحتمالات منها:
[ على جميع القوى تقديم تنازلات، حتى تتشكل الحكومة الجديدة بأسرع وقت، فلا تتحول المرحلة المؤقتة إلى وقت ضائع كما حصل في لبنان، علماً ان العراق يحتاج لكل ثانية من الوقت لأنه على موعد مع استحقاق الوعد بانسحاب القوات الأميركية، مما يتطلب استقراراً سياسياً ولو متواضعاً حتى لا يتزاوج الفراغ الأمني مع الفراغ السياسي فتقع الكارثة.
[ على مختلف القوى عدم التعطيل وأخذ العراق رهينة، لتنفيذ خياراتها والتزاماتها. مجرد حصول ذلك يعني الاستمرار في التضحية بالعراق وإبقائه على حافة الهاوية طمعاً بتحقيق مكاسب مؤقتة.
[ أفرزت النتائج المعلنة والملحوظة، تقدماً واضحاً للمتنافسَين الرئيسَيين وقوائمهما أي نوري المالكي واياد العلاوي. لكن رغم هذا التقدم فإنّ على كل واحد منهما التفاوض مع القوى الأخرى خصوصاً مع الأكراد ولائحة الائتلاف بزعامة المجلس الإسلامي الأعلى وبيت الحكيم تحديداً. الأحجام والأسماء والحقائب كلها ستكون موضع تجاذبات ومفاوضات كما حصل في لبنان. الملاحظ ان احتمالاً بدأ يتبلور بعد الانتخابات وهو قيام تحالف ثنائي بين علاوي والمالكي والأكراد يفرض أغلبية مطلقة لا تخضع للاهتزازات أو الزلازل المحدودة القوة، وان يكون رئيس الحكومة المقبل بعيداً عن هذا الثنائي، والمجيء بشخصية قوية جديدة، من بين الأسماء الجديدة الكثيرة والقوية وصاحبة تجربة سياسية حقيقية، الى جانب القديمة، السيد جعفر الصدر، ابن الصدر الأول. وهو كان معمماً ثم أصبح مدنياً، بذلك يملك الثقافة الدينية والمدنية إضافة إلى شرعية والده التي ورثها منه، كل ذلك لا يعني استبعاداً كلياً للمجلس وللصدريين. قد يتم التعاون معه ضمن هذا الاحتمال من خلال تسمية بعض قياداتها والقيادات المتحالفة معها لمواقع مناسبة لحجمها ودورها، بذلك لا يتم استبعاد قوة سياسية تستطيع في أي وقت التعطيل.
لبننة النظام العراقي مستمرة ولزمن طويل.
يبقى ان العراق جزء من الوضع الاقليمي المعقد، يؤثر ويتأثر به، المشكلة ان الحالة الاقليمية نفسها تتطلب الكثير من المعالجات، كلما تحسنت هذه الحالة كلما انعكست إيجابياتها على العراق كما في لبنان. العراق يعود تدريجياً. مسار هذه العودة طويل. مَن يساعد العراق من القوى الاقليمية وحتى الدولية، يساعد نفسه.
[email protected]

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00