لماذا وجهت دمشق بعد أكثر من ثلاث سنوات على صدور القرار 1701 رسالتين متطابقتين الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ومجلس الأمن، احتجت فيهما على الزج باسمها في التقارير الدورية التي يصدرها مون حول تنفيذ هذا القرار، خصوصاً ما يتعلق بالمزاعم الإسرائيلية حول تهريب الأسلحة بين سوريا ولبنان، من دون أخذ وجهة النظر السورية بالاعتبار، وعدم الإشارة الى تحسن العلاقات اللبنانية السورية بعد زيارة الرئيس سعد الحريري الى دمشق؟
ببساطة كلية، لأن دمشق تشعر أنها أصبحت قوية ومطمئنة بما يكفي لكي تقول لا، ولتطالب بما تراه حقوقاً لها. ينقل الدمشقيون أن هذا الشعور بالقوة صادر عن متغيرات ووقائع قائمة وليس تظاهراً بحالة مرجوة أو مأمولة.
دمشق، كما ينقل الدمشقيون، لم تفك الحصار والعزلة عنها بتنفيذ سياسة تقديم التنازلات. تراجعت أمام العاصفة ثم تقدمت لتستثمر الوقت وخصوصيات كل ملف وساحة من ساحات المنطقة المليئة بالبراكين. نجحت دمشق فحصدت وتراجع الآخرون من المحاصرين والعازلين.
في سياستها الناجحة، سلفت دمشق كل الأطراف الأخرى، لأنها تعرف جيداً كيف تقايض من سلة غيرها، تفوقت في استقدام العروض الكثيرة والغنية، وهي تأخذ حالياً ما تعتبره بدلاً شرعياً لها. الأمثلة كثيرة من الجزائر الى العراق وصولاً الى فلسطين ولبنان، مروراً بأوروبا وتحديداً فرنسا، لا شك أن دمشق أمسكت أغنى الملفات وأهمها وأكثرها حساسية لكل الدول وهو الحرب ضد الإرهاب والمجموعات الإرهابية وأعطت أو ساهمت في نجاح الحرب بنسب متفاوتة على مختلف هذه الساحات. حان الوقت كما يقول الدمشقيون أن يدفع الآخرون لدمشق وهم يدفعون الآن.
الشرعية الجغرافية لمصر في غزة
بداية، مجلس الأمن لن يصدر هذا العام أي موقف في أعقاب مناقشة التقرير حول تنفيذ القرار 1701. هذا الحل هو حل وسط، يراعي دمشق من جهة ولا يأخذ بمطالبها من جهة أخرى. صدور البيان كان سيلزم مجلس الأمن إما بتجاهل المطالب السورية أو مراعاتها. خير الأمور الوسط، لا يستفز ولا يتجاهل ولا يعدل من مواقفه. مجلس الأمن ترك للزمن مسألة الحسم، ربما المتغيرات التي تحصل أو ستحصل في العام 2010 تبلور الموقف النهائي للمجلس في العام القادم.
عربياً، دمشق تعطي لتأخذ في العراق ولبنان. موقفها في الانتخابات العراقية أكد براعتها في السير بين الألغام. أرضت السعودية ومصر والسنة عامة والعراقيين خاصة، ولم تختلف مع طهران، التي بدت في وقت معين مصالحها متناقضة معها. دمشق راعت طهران فلم تزاحمها وتنافسها في الجنوب العراقي. لعبت في الدائرة الأخرى الممتدة من بغداد الى اقليم كردستان.
لم تكتمل المعادلات بعد. ما زال الوقت مبكراً للحسم. تشكيل الحكومة العراقية أياً كانت النتائج صحيحة أو مزورة، حاسمة في صيغتها أو مرتبكة ومربكة. لذلك لا يمكن القول إن الجائزة أصبحت جاهزة. لكن من الطبيعي تقديم بعض الحوافز هنا وهناك في المنطقة خصوصاً في لبنان.
أيضاً، من علامات هذا التحول، اقتراب المصالحة المصرية السورية. قبل أسابيع وليس أشهراً كانت هذه المصالحة غير منظورة، الدفاع المشترك عن المصالح المشتركة هو قاعدة هذه المصالحة. لا يمكن إلا أن يكون الملف الفلسطيني خصوصاً حماس وقطاع غزة في صلب هذه المصالح.
دمشق قد تكون اعترفت لمصر بحقوقها المكتسبة من الشرعية الجغرافية المشكلة بينها وبين قطاع غزة، تحديداً كما حصل وإن اعترف الآخرون لدمشق بمصالح لها في لبنان باسم قواعد الشرعية الجغرافية التي تربطها به. التحولات منحت دمشق قدرة أكبر على المناورة. بإمكانها أن تعطي لمصر في ملف المصالحة بين فتح وحماس، من دون أن تقلق من الموقف الإيراني. طهران أصبحت بحاجة الى دمشق في لبنان وكل ما يتعلق بحزب الله. صحيح أن الإيرانيين يستطيعون دخول بيروت من مطار الشهيد رفيق الحريري، لكن ليس كما في السنوات التي أعقبت الخروج السوري عام 2005. أصبح لحرية الحركة الإيرانية حدوداً حتى وإن لم تكن منظورة. الحضور السوري الذي يتمدد بقوة وسرعة داخل لبنان يفرض على طهران في تعاطيها وتعاملها معه وحزب الله أخذ موقف دمشق في الاعتبار المكثف.
يبقى أن كل هذا الحصاد في كفة، والوعد بالحصاد من الحقل الأميركي في كفة. دمشق تعرض غنى محصولها أمام واشنطن، حتى يمكنها مطالبتها بتسريع إنضاج طبخة التطبيع من جهة ورفع منسوب مكافأتها من جهة أخرى. دمشق مضطرة للعرض أمام واشنطن ابتداء من الخدمات وتنفيذها (ضبط الحدود مع العراق) وصولاً الى الرغبة بالسلام مع إسرائيل مقابل الأرض.
ليس أمراً عابراً ولا قليلاً، أن تدعو واشنطن بعد خمس سنوات من العزلة والحصار، فيصل المقداد نائب وزير الخارجية لزيارتها للمرة الثانية في فترة لا تزيد عن عدة أسابيع. كذلك وفي المستوى نفسه أن يقوم فيلتمان وشابيرو بزيارة ثالثة لدمشق كما هو مقرر في خلال عدة أشهر فقط.
الأعمال وليس النوايا
فتح طريق دمشق واشنطن على الخطين مهم جداً على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي. هذا التحول يؤكد على أن الحوار أصبح سيد العلاقات والسلاح الوحيد لحل الخلافات الكبيرة. سقطت لغة التهديد مع انتهاء سياسة العزل. أكثر من ذلك أصبح لدمشق نصير في واشنطن، إنه السيناتور جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية. كيري يتبنى منذ زمن طويل إرسال سفير أميركي الى دمشق كما يحث منذ انتخاب باراك أوباما على الانخراط مع دمشق.
ترشيح الرئيس باراك أوباما، الديبلوماسي المخضرم روبرت ستيفن فورد يشكل كما ترى أوساط مهمة في واشنطن تطوراً ايجابياً لأسباب عديدة أهمها:
أن فورد ديبلوماسي على درجة عالية من الخبرة في شؤون الشرق الأوسط. وهو يتقن العربية والتركية والفرنسية والألمانية وحاصل على جوائز وأوسمة عديدة من الخارجية. الأهم في تجارب وخبرات فورد أنه أحد أبرز الخبراء في وزارة الخارجية في الشأن العراقي، فقد خدم فيه بين عامي 2004 و2006، حيث ركز على ضرورة إشراك كافة القوى السياسية العراقية في العملية السياسية والحيلولة دون تهميش أي منها خصوصاً السنة. أي باختصار ما يجري العمل به وينفذ حالياً، كما يتضح من مسار الانتخابات الأخيرة.
أن القوى المحافظة تعارض تسمية سفير أميركي في دمشق بدعوى أن دمشق ما زالت دولة داعمة للحركات الراديكالية والتنظيمات الإرهابية في العراق وحليفاً اقليمياً لإيران، وأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وجدت آثاراً مؤكدة لليورانيوم المخصب في موقع دير الزور.
النواب الجمهوريون ينوون عرقلة إرسال فورد سفيراً الى دمشق. حظوظ نجاحهم في هذه العرقلة تبدو معدومة. من المهم متابعة المناقشات التي ستدور خلال جلسة التصديق على تسمية فورد في الكونغرس خصوصاً وأن ثمانية نواب جمهوريين رفعوا رسالة الى هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية قالوا فيها إن الانخراط مع أنظمة معادية في السعي لمصالح أميركية ليس بالضرورة سياسة سيئة. إنه جزء من استراتيجية واقعية مع أهداف قابلة للقياس. لكن الانخراط لغرض الانخراط ليس منتجاً.
وصول السفير الأميركي فورد الى دمشق بعد تصديق الكونغرس على تسميته يريح دمشق، خصوصاً وأنه سيعتمد الحوار نهجاً له. مشكلة دمشق أنها رغم كل هذه النجاحات ما زالت خاضعة لامتحانات دقيقة وأحياناً صعبة على مساحة المنطقة. لا يمكنها أن تتحرك بدون حساب وحسابات مدروسة جيداً وبعناية فائقة. نائب الرئيس الأميركي جون بايدن أكد ذلك، بعد أن أشار الى عودة السفير الأميركي والعمل على تعزيز العلاقات مع دمشق، ووعد بمواصلة دعم المؤسسات في لبنان قال: ستبقى أعيننا مفتوحة للتنبه من أعمال سوريا.
منذ زمن طويل، واشنطن لم تعد تتعامل مع دمشق على أساس النوايا مهما كانت ايجابية. الأعمال وحدها تتكلم.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.