يعرف العراقيون أنّ عراقهم ما زال مريضاً. يلزم العراق الكثير من الوقت والأعمال المنتجة والنوايا الطيبة ليتعافى، ويعود قوياً يستقوي به الآخرون، ولا يستمرون في الاستقواء عليه. تشكيل السلطة التنفيذية وفي صلبها الحكومة، ليس الدواء الكافي ولا الشافي. هذه العملية قد تأخذ وقتاً طويلاً بسبب المفاوضات تمهيداً لإنشاء التحالفات بين مختلف القوى، التي بدورها ستفرز تركيبة الحكومة المقبلة. كل هذا بداية لمسار طويل. كل ما سيجري يشكّل مرحلة انتقالية قمّتها في إنجاز الانسحاب العسكري الأميركي.
كيفية تحصين العراق الضعيف، مهمّة دقيقة وتاريخية أمام النظام الذي سيتشكّل. هذه العملية معقّدة جداً، لأنّ منطقة الشرق الأوسط كلها وليس العراق وحده، موجودة على مفترق طرق ومسارات مختلفة جداً عما سبقها طوال أكثر من أربعة عقود تقريباً. في صلب هذه المسارات وقوع تغييرات واسعة وعميقة. النظام العربي القائم الموجود في غرفة العناية الفائقة منذ فترة طويلة في قلب كل ما يحدث. من الطبيعي والضروري العمل على إخراج هذا النظام من غرفة العناية الفائقة بصيغة جديدة تتناسب مع المتحوّلات. دون ذلك، فإنّ تراجع حضور هذا النظام في التشكلات المقبلة، سيشكل كارثة مستقبلية أمنية وسياسية لدول العالم العربي. ما يعزّز هذا المطلب صعود قوى اقليمية قويّة في أساسها جديدة في إدارتها لحضورها ودورها الحالي والمستقبلي. هذا الحضور يتناول أساساً تركيا وإيران.
إسرائيل في هذه العملية خارج كل المعادلات. لقد وضعت نفسها في خانة العداء وإن بنسب متفاوتة مع جميع قوى المنطقة القديمة منها والحديثة. إسرائيل موجودة في موقع حسّاس في المنطقة. العالم اعترف بها، وبعض الدول العربية وتركيا اعترفت بها. لكنها في الوقت نفسه لا تعترف بمواقعهم وأدوارهم وحتى حق الاختلاف والتمايز معهم. مشكلة إسرائيل أنها وهي في قلب المنطقة، تفكر وتعمل وتتصرف وكأنها من خارجها. الأسوأ من كل ذلك أنها في تشدّدها وتشديدها على انتمائها إلى الخارج الغربي، تصعِّد من سياستها الاستيطانية، وتفرض موقفها بقوّة السلاح. إسرائيل وهي تنشط على هذه المسارات تجعل من نفسها بعيداً عن موقف العرب معها كقوّة استعمارية واستيطانية مرفوضة تجعل من عزلها عملية شرعية على جميع الصعد.
عودة إلى العراق. اياد علاوي الرقم الصعب الجديد في العراق اليوم، يرى وجوب تكوين نظام اقليمي متوازن يحمي الكل ويؤدي إلى الاستقرار والنمو. سواء أصبح علاوي رئيساً للوزراء أم لم يصبح فإنّه سيتم الأخذ برؤيته ومواقفه بالعملية السياسية في العراق. علاوي نجح في تشكيل ائتلاف مهم بين قسم من الشيعة المتعبين من الأحزاب الدينية المذهبية وممارساتها، والسنّة العائدين إلى العملية السياسية لأخذ موقع لهم في عملية تكوين السلطة العراقية الجديدة. هذا من جهة الداخل، على الصعيد الخارجي نجح علاوي بالدخول في قلب مربع اقليمي دولي مشكّل من سوريا وإيران وتركيا (التركمان أعطوه أصواتهم ففاز على الأكراد أولاً وساهم ثانياً في رسم خريطة جديدة لكركوك مغايرة لمطالب الأكراد بحجّة الأغلبية)، والسعودية، أما الولايات المتحدة الأميركية فإنّها تبدو راضية ومتفقة مع هذه التوجهات. علاوي الذي يتحدث عن نظام اقليمي متوازن، أعرب عن استعداده لزيارة إيران بعد أن تلقى دعوة منها. معنى ذلك أن علاوي الجديد يفهم جيداً معادلة التوازن في المنطقة وبأنها لا تقوم بلا إيران. التفاهم معهم بما يخصّ أمن واستقرار العراق أساسي لا يمكن تجاهله ولا الوقوف في وجهه، العراقيون قد لا يحبون إيران لكنهم يعرفون حقائق الجغرافيا والديموغرافيا وما أنتجته السنوات الأخيرة بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين من تحوّلات وإفرازات جديدة.
أحمد الجلبي المنافس والخصم التاريخي لعلاوي، يبقى راسم المسارات في العراق، الذي لن يستطيع أن يكون الرجل الأول. حتى لا يبقى خارج التحوّلات، فإنّ الجلبي الذي رسم مساراً واضحاً في تشكيل جبهة المعارضة للنظام السابق وساهم في دفع واشنطن بوش نحو غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، يريد أن يضع بصمته على مسار التشكيل الحديث للنظام الاقليمي المتوازن. لذلك اقترح نظاماً أطلق عليه الاقليم الرابع مستخرجاً هذا التعريف من التاريخ القديم عندما كان العالم ستة أقاليم.
وضوح تكوين الأقليم الرابع، في هذا الطرح يشكل إشكالية تستحق المتابعة. ما يعزز ذلك أنّ دمشق ترحّب وطهران تبدو مؤيّدة لمثل هذا المشروع، ولذلك تعتبره جدّياً بصرف النظر عن شخصية مَن يطرحه. يقوم مشروع الاقليم الرابع من مربع أضلاعه: العراق وسوريا وتركيا وإيران. ما يجمع هذه الدول الأربع وجود مصالح مشتركة فيما بينها، ومشتركات حضارية وثقافية وسياسية وقانونية وتاريخية وبشرية واسعة إلى جانب أنّ مثل هذا الحلف يستطيع أن يلعب دوراً اقتصادياً وعلمياً وسياسياً على مساحة منطقة الشرق الأوسط. قوة هذا الحلف أنه يملك ثروات النفط والماء وقاعدة صناعية تتطور يومياً.
من المبررات لقيام هذا الحلف:
[ إخماد العنف الطائفي، خصوصاً على الصعيد المذهبي السنّي الشيعي، وجود هذا الحلف سيحقق حالة توازن شاملة في العالم الإسلامي من خلال الدور الذي يمكن أن تلعبه كل من إيران وتركيا.
[ معالجة الأوضاع الحسّاسة للديانات التي تتعرّض للتهميش أو الهجرة الطوعية.
[ معالجة الملفات العرقية الملتهبة ومنها المسائل الكردية والأرمنية والتركمانية والعربية. في مثل هذا الحلف تستطيع هذه الشعوب التعايش فيما بينها مع المحافظة على ثقافاتها ولغاتها وآدابها.
[ تحقيق التكامل الاقتصادي وتنميته. دول الاقليم الرابع تحتل موقعاً جغرافياً يمتد إلى روسيا وأوروبا والعالم العربي.
[ توسيع المنافذ البرية والبحرية خصوصاً بالنسبة للدول التي تعاني من ضيق في ذلك مثل العراق.
[ معالجة الإرهاب بتجفيف منابعه ومحاصرتها، مما سينتج الاستقرار الداخلي وانحسار التدخلات الخارجية.
[ بلورة سياسة خارجية رصينة مع العالمين الآسيوي والغربي.
[ تنسيق مصادر المياه في المنطقة، ونزع فتيل قنبلة موقتة تدور حول التنازع على هذه الثروة.
[ فتح الحدود وبناء بنى تحتية تسمح بالتنقل السريع بين دول المنطقة بحرية كاملة.
طبعاً يمكن إضافة أسباب كثيرة وفوائد عظيمة لمثل هكذا مشروع. لكن أين موقع هذا المشروع بين الواقع والخيال؟
بدايةً، مثل هذا المشروع يُذكّر بأحلاف قديمة مثل حلف بغداد. ولا شك أن ورود مثل هذا المشروع سيثير ردود فعل في أساسها دفاعية. من ذلك ماذا عن مصر والسعودية والأردن، وخطر حصول طلاق فعلي بين المشرق والمغرب؟ وماذا لو اتجهت مصر نحو محيطها وأقامت بدورها اقليماً خاصاً يضمّها إلى جانب السودان والصومال (عندما ينجو من براثن الحروب الأهلية والإرهاب الأعمى)؟ وماذا أيضاً عن خصوصية الوطن العربي في ظل مشروع يؤدي عملياً إلى صهره في دائرة أوسع وأكثر تنوّعاً؟ الأخطر أن يتحوّل الوطن العربي إلى مجموعة مربّعات أو أقاليم التنافس والعداء بينها أعمق بكثير مما جرى ويجري، خصوصاً وأنّ الخارج الاقليمي سيصبح طرفاً أساسياً في ذلك.
المشروع يتضمن الانفتاح على الدول المحيطة والقبول بها أعضاء لاحقين إلى جانب المؤسسين، تماماً كما حصل ويحصل في الاتحاد الأوروبي. هذا لا يكفي لإقناع الآخرين خصوصاً في ظل انعدام الثقة القائم بين معظم العالم العربي وإيران.
كل مشروع يبدأ من فكرة. المهم أن هذه المنطقة بدأت ولو متأخرة تبحث عن موقعها في العالم الجديد.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.