ثلاث ديموقراطيات قدمت أوراق اعتمادها أمام العالم. العريقة في فرنسا، والمخضرمة في لبنان، والوليدة في العراق. المقارنة بين مسارات هذه الديموقراطيات ونتائجها مستحيلة وظالمة. لكن من الضروري قراءة مفاعيلها بموضوعية وشفافية من أجل المستقبل.
انتهت الانتخابات الإقليمية بهزيمة معلنة للرئيس نيكولا ساركوزي وحزبه الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، بعد أقل من ساعة على اقفال صناديق الاقتراع، أعلن وزير الداخلية ورجل الرئيس، هزيمة رئيسه وحزبه، لم يطالب بإعادة الفرز، ولم يتحدث عن ضغوط غير متوقعة أو غير محسوبة. في الديموقراطيات العريقة، لا أحد من المسؤولين أو المعارضين يحتج على اختيارات المقترعين. قبول النتائج والعمل بها قناعة وواجب وطني وديموقراطي. لا يستطيع أي طرف التحجج بالخارج، لأن الانفصال بين الداخل والخارج عميق جداً ومتباعد كثيراً. لا علاقة للخارج باختيارات الشعب الفرنسي، الذي هو سيد مصيره وقراره مئة في المئة.
كيفية مواجهة الهزيمة وانعكاساتها على سياسة الرئيس، بدت الشغل الشاغل لمعسكره منذ التقاط التحول في موقف الرأي العام الفرنسي. من المؤكد أن الخطاب السياسي للرئيس شكل القاعدة الأساسية لهذه الهزيمة. لا يمكن مواصلة سياسة اختراع قضايا تشغل المواطن الفرنسي لمدة طويلة عن همومه اليومية، وقلقه الدائم من البطالة، ومواجهة الشيخوخة. تضخيم مقتل شرطي وتحويله الى حفلة بكاء ولطم ضد التسيب القادم من المهاجرين رغم انه عميق الجذور، يعني استغباء للفرنسي العادي لم يكن من الممكن تحمله. الفرنسيون يريدون سياسة متكاملة واضحة وقادرة على مواجهة المستقبل بكل احتمالاته ومخاطره بأقل كلفة ممكنة، سيحاول ساركوزي كثيراً لإعادة ترميم معسكره، لكن يبدو أن الأمر لن يكون سهلاً، لأن البارونات القدامى والجدد يتحفزون للدخول في صراع مكشوف للوصول الى العام 2012 بقوة، موعد الانتخابات الرئاسية. دومينيك دوفيلبان رئيس الوزراء السابق والمنافس الحقيقي لساركوزي يستعد لتشكيل حزبه، ما يعني مزيداً من الانقسامات داخل معسكر اليمين الوسط، في وقت رشح فيه اليمين المتطرف حضوره على مساحة فرنسا. لذلك طالب أركان الحزب الحاكم الرئيس ساركوزي أن يجد الخطوات والعبارات للم شمل عائلته ورسم آفاق جديدة. سياسة الانفتاح على شخصيات اشتراكية اثبتت فشلها، فهي لم تثمر شيئاً على صعيد الحكومة وعملها، ولم تنجح في ضرب الحزب الاشتراكي. مطلوب سياسة جديدة ونهج مثمر.
الحزب الاشتراكي نجح بزعامة مارتين اوبري في استعادة حلفه القديم المتعدد الالوان: الزهري (اشتراكي) والاحمر (شيوعي) والاخضر (بيئوي) وقد انتصر على خصمه اليميني المتشرذم لكنه لم يقدم نفسه وكأنه قادر على الانتصار لاحقاً. ما زال أمام الحزب الاشتراكي الكثير من العمل لاستعادة وحدته الداخلية لخوض الاستحقاقات المقبلة موحداً. نجح الحزب الاشتراكي من الخروج من حالة الاطلال التي عاشها منذ أن أخذ زعيمه ليونيل جوسبان ومرشحه للرئاسة قراره الاحادي ترْك قيادة سفينته وهي في أعالي البحار. الفوز في معركة لا يعني مطلقاً ربح الحرب. ما زال الاشتراكي بحاجة الى استراتيجية حقيقية وواقعية غنية بالأفكار الجديدة والمنتجة حتى يستطيع إثبات قدرته على الانتصار، ورؤية فرنسا زهرية.
اخطر افرازات هذه الانتخابات تضخم حزب الممتنعين. نصف الناخبين تقريباً لم يذهبوا الى مراكز الاقتراع. المحللون يرون أن المجتمع الفرنسي متعب نفسياً وهو أيضاً يؤشر الى اعتقاد الفرنسيين بأن السياسة عاجزة عن تحسين الأوضاع في فرنسا. هذا الشعور خطير جداً بالنسبة لدولة عريقة الديموقراطية. كيفية معالجة هذا الشعور النفسي لدى الفرنسيين مهم وعاجل جداً.
مهما قيل عن لبنان فإن تجربته الديموقراطية مهمة في المنطقة. اللبنانيون يقترعون ويختارون نوابهم. يقال الكثير عن شوائب النظام الانتخابي، في ذلك الشيء الكثير من الصحة والحقيقة. مشكلة لبنان اعمق من ذلك، وهي أساساً في تكريبته الفسيفسائية الطائفية والمذهبية. هذه التركيبة المعقدة زادت من تعقيد الحالة اللبنانية. الاحزاب فيه مهما بلغت حداً عالياً من الفكر والايديولوجية تبقى حالة طائفية ومذهبية. بدل ان تخترق الاحزاب كل الطوائف والمذاهب لتقدم نسيجاً من الوحدة الفكرية والايديولوجية، فإن الطوائف والمذاهب هي التي تصيغها من ألفها الى يائها. هذه الخصوصية هي التي تعطل الخيارات السياسية القادرة على التغيير.
أيضاً لا شك أن التشابك القائم بين الداخل والخارج في الحالة اللبنانية يدفع أكثر فأكثر نحو تعقيد مفاعيل الاستحقاق الانتخابي الديموقراطي. الفوز في الانتخابات لا يعني مطلقاً تشكيل سلطة تنفيذية تجسد خيارات المواطنين. من افرازات هذا المشهد المعقد، قيام الحكومة الوفاقية التي كل واحد فيها يشكل ثلثاً معطلاً. هذا الواقع مرّ لانه يفرض توافقاً حول أصغر ملف فكيف بالملفات الوطنية والاستراتيجية. الديموقراطية اللبنانية حلوة في محيطها الجغرافي، لكنها بعيدة جداً عن فعل ديموقراطية عريقة مثل فرنسا، ليس لأن الفرنسي أكثر ديموقراطية من اللبناني، ولكن لأنه أقل طائفية ووطني أكثر لا يسمع غير صوته الداخلي وحاجاته وآماله وطموحاته.
في العراق، لا يمكن إلا تهنئة كل عراقي على الانتخابات التشريعية. مهما كانت النتائج، فإن العراق قطع مسافة تكاد تكون ضوئية بالنسبة للماضي. بين النظام الذي كان يحصل فيه الرئيس على مئة في المئة من الأصوات مما يعطيه تكليفاً شعبياً غير واقعي وحقيقي لصياغة الدولة كلها على مقاسه، والفارق الحالي بين رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي وخصمه الاول اياد علاوي بعشرات الالاف من الاصوات، قفزة سياسية تؤكد أن المواطن العراقي أمهل اختياره ولم يهمله.
مشكلة العراقيين أن لبننة نظامهم السياسي، دفعت نحو التشابك بين الداخل والخارج أيضاً. العراقيون لن يستطيعوا رؤية أغلبية حزبية تستلم السلطة لتصيغها على مقاسها وطموحاتها لبناء عراق يتلاءم مع أفكارها والتزاماتها السياسية. من الضروري عقد تحالفات واسعة لتشكيل الحكومة، هذا الواقع يتطلب مفاوضات معقدة تتداخل فيها التركيبة الفسيفسائية العرقية والقومية والمذهبية. لكل واحدة من هذه القوى حق التعطيل والقدرة عليه. لا يمكن تشكيل حكومة وسلطة تنفيذية بدون الائتلاف الكردي، أو بدون السنّة أو الشيعة.
الأسوأ أن أي حكومة عراقية لن تتشكل بدون توافق إقليمي هذا التوافق ليس بالضرورة اجماعياً، وانما بين قوى متفاهمة فيما بينها على تركيبة السلطة العراقية بعد الانسحاب الأميركي. أيضاً ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً اضافياً وخصوصاً أن التنافس والتزاحم بين القوى الإقليمية تحت المظلة الأميركية واسع وشامل ومستقبلي.
مهما تكن التحفظات فإن القليل من الديموقراطية أفضل من لا شيء. لكل ديموقراطية همومها ومشاكلها.
على الأقل أن اللبناني يطمح أكثر لما يعتبره حقاً شرعياً له في التعبير والتنفيذ، وان العراقي أكد أنه قادر على الاختيار بصوت عالٍ بعدما فرض عليه منذ عقود الصمت.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.