تشكيل السلطة التنفيذية في العراق، فصل بين الداخل والخارج. إدارة الوضع أصبحت عملية خارجية واسعة جداً، وكثيفة الأطراف، ومتعددة الأهداف المتضاربة. العراقيون قاموا بواجبهم نحو وطنهم ومستقبلهم، بشفافية وإقبال كثيف على صناديق الاقتراع وحماسة أكدت بقوة، أن الديكتاتورية والتخلف لا يمكنهما اقتلاع إرادة الاختيار والخيار لدى أي شعب، وأنهما يستطيعان أن يهيلا عليها الخوف والصمت بالعنف والقوة لزمن محدود مهما طال لكنهما لا يقتلعانها.
العراقيون أقبلوا على صناديق الاقتراع رغم العنف الأعمى والأسود والتهديدات الإرهابية. إرادة التغيير والحق بحياة أفضل لدى العراقيين كانت أقوى من كل شيء. غير مهم أن يُقال إنها ديموقراطية في ظلال الاحتلال. في الواقع إنها خطوة نحو عراق مختلف في منطقة لها الحق بأن تصيغ يوماً واقعها من دون خوف.
كل ذلك حقيقي، لكن لهذه الحقيقة وجه آخر أيضاً، وهو أن لبننة النظام العراقي قائمة ومتحركة بكل مفاعيلها. من الأسس الأولى لهذه اللبننة أنه لا يكفي أن تفوز قوة سياسية بالأكثرية حتى تصيغ السلطة التنفيذية على قياسها وطموحاتها ومشروعها، إذا وُجد مثل هذا المشروع. كل قوّة في اللبننة مهما كانت كبيرة أو صغيرة لها حق الفيتو. كل قوّة هي عملياً تشكل الثلث المعطل. الحل في الاتفاق والتوافق. الائتلافات هي التي تفرض معادلاتها. في مثل حالة العراق مَن ينجح في صياغة الائتلافات سيكون الرابح الأكبر.
المعركة مفتوحة في العراق وعلى العراق. لاعبان كبيران حالياً يعملان على إدارة الوضع: الولايات المتحدة الأميركية وإيران، الباقون سوريا والسعودية وتركيا لهم مواقع وأوزان مختلفة. الأميركيون ليست لديهم مشكلة، لأنهم موجودون على الأرض أولاً وفي كل تجمّع على حدة مهما بدا بعيداً عنهم. لكن لواشنطن أهدافاً تتجاوز العراق، مع العلم أن العراق يشكل محركاً أساسياً لتنفيذ الأهداف. قوّة الحضور هذه تسمح لواشنطن بترك المسارات تتركب وتتوضح، حتى تحدد نهائياً ماذا تريد وماذا تستطيع. في هذا لا تبدو واشنطن مستعجلة في الداخل العراقي، الملح عندها الآن الدائرة الاقليمية الواسعة، وفي قلبها حالياً أفغانستان.
الولايات المتحدة الأميركية ومعها الحلف الأطلسي يريدان الخروج من أفغانستان بأقل قدر من الخسائر وبضمانات واضحة ونهائية بأن لا عودة لـالطالبان المتحالفين مع القاعدة إلى السلطة. مسألة عودتهم إلى كابول تشكل هزيمة لا سابق لها في الحرب العالمية الثالثة ضدّ الإرهاب، كما جرى تصويرها في الغرب. واشنطن مستعدة لدفع الثمن من أجل تحقيق هذا الهدف. إيران موجودة، والسلة مفتوحة على كل الملفات وأنواع المفاوضات.
لا يوجد هدف في السياسات القومية، زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى كابول في هذا التوقيت لها مغزاها.. مجيء الرئيس الأفغاني حامد كرزاي إلى طهران بعد أيام أيضاً له مغزاه. كرزاي في كابول حيث الأميركيين هم الذين يقررون ما يجب وما لا يجب لكرزاي وسلطته، لم يصل بعد إلى مرتبة يقرر فيها زيارة طهران بقرار مستقل عن المصالح القومية الأميركية. بدورها طهران لم تترك المناسبة تفوتها، بسرعة عمدت إلى توجيه رسائل واضحة حول وجودها في محيط امبراطوريتها الفارسية مناسبة عيد النوروز جمعت في صورة فريدة غير بروتوكولية المرشد آية الله خامنئي مستقبلاً رؤساء العراق جلال الطالباني والأفغاني كرزاي والقرغيزي إضافة إلى الرئيس أحمدي نجاد. الصورة أكدت الموقع المميز للمرشد. كان الرؤساء الأربعة في حضرته وليس حوله على قدم المساواة. جلسوا كما يجلس نجاد معه.
ضمن كل ذلك تأتي المفاوضات بين جلال الدين حكمتيار مع كابول والأميركيين لتؤكد أن طبخة ما تُطبخ، في صلب هذه الطبخة أن يكون حكمتيار الحل الوسط. فهو معارض للأميركيين وليس مقرّباً ولا حتى على وفاق حقيقي مع الطالبان. وهو بشتوني لا يمكن إلا أن يسحب البساط من تحت أقدام الطالبان الباشتونيين، وهو على وفاق مع طهران منذ زمن طويل. وإذا ما أضيف إلى حكمتيار، الشيعة الهزارة المتحالفين مع طهران، والجزء الأساسي من الطاجيك، فإنّ في كل ذلك ما يريح واشنطن، في الحل. لذلك واشنطن مستعدة للقبول بنفوذ إيراني مكشوف في العراق خصوصاً وأنه لا يعارضها. وطهران التي ستأخذ شرعية الحضور والدور في العراق مستعدة أن توزع الجوائز على الآخرين. البازار مفتوح من أفغانستان إلى فلسطين، وكل السيناريوات ممكنة. لا مستحيل في لعبة الأمم.
إيران الموجودة في تفاصيل النسيج العراقي الاجتماعي والسياسي والمذهبي، تركت الانتخابات تجري من دون تدخل عميق. وكانت تعرف أن المهم حضورها على البيدر بعد الحصاد. تركت لكل القوى الاقليمية حرية الحركة والظهور بمظهر القادر على صياغة اللعبة ونتائجها، ثم استعادت زمام الأمور للتحكم بعملية فرز النتائج الذي تجسد في صياغة السلطة التنفيذية. من جديد أكدت طهران أنها هي التي تعطي وهي التي تأخذ في العراق، مع الأخذ في الاعتبار الوجود الأميركي. الاحادية ممنوعة. هذه الاستحالة هي التي تفتح الباب أمام حوار ميداني بين واشنطن وطهران. الطرفان يلعبان اللعبة عن معرفة كاملة بالتفاصيل الصغيرة.
طهرات أثبتت أنها تمسك مفتاح الأغلبية. يكفي أنها جمعت الأضداد العراقيين عندها. قيادات من الائتلاف الوطني بشقيه المجلس الأعلى (عادل عبدالمهدي) والصدريين فضلاً عن أحمد الجلبي، وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي وحزب الدعوة تنظيم العراق ومن التحالف الكردستاني نيجرفان بارزاني وفخري كريم كبير مستشاري الطالباني. ناقشوا طوال يومين مشكلة التحالف بينهم. هذا التحالف يضمن الأغلبية المطلقة ويحول العراقية إلى قوة معارضة مستبعدة. الخلاف على اسم رئيس الوزراء كان وما زال يشكل العقبة الرئيسية.
نوري المالكي مرفوض من الصدريين ولا موقع له لدى السنّة. حظوظه في تولي رئاسة الوزراء تبدو قليلة جداً. طهران تأخذ في الاعتبار موقف حلفائها وأعوانها، لذلك يزداد غنى بورصة الأسماء يومياً، منهم عادل عبدالمهدي وطارق نجم وجعفر الصدر (ابن الصدر الأول) وحيدر العبادي وأحمد الجلبي وعلي الأديب وقصي السهل من الصدريين وغيرهم كثيرون. لكل واحد منهم حظوظه. علي الأديب رجل إيران الأول، كذلك أحمد الجلبي المرابط عند الأميركيين. موازين القوى الخارجية هي التي ستفرض في النهاية اسم الحصان الفائز. مشكلة العراق أن اللعبة الديموقراطية حالت دون ظهور اسم جامع، ففتح ذلك البازار على مصراعيه.
هل يعني ذلك أن ليس لاياد علاوي الحظ في تولي رئاسة الوزراء؟ يبدو أن حظوظه قليلة رغم أنه أصبح رقماً صعباً في المعادلة العراقية. طهران كما يبدو لا تريده. واشنطن وإن كانت تريده لا يمكنها خوض الحرب من أجله. دمشق والرياض ترغبان فيه. لكن دمشق لن تذهب في دعمه إلى درجة التنافس مع طهران. لكل شيء حدوده. أما الرياض وإن كانت لاعباً اقليمياً كبيراً إلا أن غيابها عن العراق طوال السنوات الماضية أضعف حضورها، وهي دخلت أخيراً على اللعبة من باب التوافق مع دمشق للمحافظة على وحدة العراق وعروبته.. إذاً، اللعبة مفتوحة خصوصاً على الصعيد الزمني.. والتسويات الخارجية لا بد أن تنعكس على الداخل العراقي أولاً وعلى مساحة منطقة الشرق الأوسط، ولبنان هو الطرف الذي يتلقى. من الأفضل العمل للغد وكأن التسويات ممكنة والحرب ليست مستحيلة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.