حتى الذين توقعوا انفجار العنف الأسود في العراق غداة الانتخابات التشريعية، فوجئوا بما حصل خلال الأيام القليلة الماضية. المفاجأة في كمية العمليات وكيفيتها ونوعيتها، فلأول مرة طال الارهاب الأسود مبانٍ سكنية، قتل أهلها جماعة من الأطفال والنساء والرجال.
هذه الحرب القذرة مرشحة للتصعيد. ما حصل بداية وليس نهاية ولا هي رغم عنفها الأسود قد وصلت الى القمة، ربما الأيام المقبلة ستحمل الأسوأ والكثير من الألم والدماء والدموع. ليس هذا مجرد تقدير وانما كما ترى قيادات عراقية بأنه للأسف واقع جديد. كل يوم تأخير في التكليف والتشكيل للحكومة، هو تجربة مرة ومريرة اضافية أمام العراقيين.
يحاول عراقيون واسعو الأفق قراءة ما يحصل بدم بارد وعقل مفتوح للأزمة الحالية، فيكون السؤال الأساسي: هل الصراع على رئاسة الحكومة هو السبب أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير؟
هذا الصراع جزء وليس كل من الأزمة. هو الواجهة التي تخفي صراعات أوسع وأهم على قلب منطقة الشرق الأوسط أو مركزها، أي العراق. المشكلة ليست في صياغة تركيبة العراق ولن يحكمه وانما تركيبة المنطقة هي المشكلة. لأن المشكلة تعني القوى الاقليمية جميعها وقوى دولية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، فإن الأزمة عميقة جداً, وزلازلها عديدة وقوية جداً.
نتائج الانتخابات التي كانت متوقعة ولم تكن مفاجئة، أعطت لكل الجهات حقوقها. لا توجد جهة غير محفوظة النتائج. هذه الحالة جاءت لأن الانتخابات جرت باتفاق القوى الاقليمية المعنية زائد الارادة الدولية خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية. اضافة الى عام أساسي هو تفاعل الشعب العراقي الذي قفزت مشاركته عن 60%. أمام هذا كله تبلورت قاعدة مهمة وحاسمة تؤكد على انه لا توجد جهة أو قوة داخلية تستطيع أن تأخذ كل شيء وأن تفقد جهة داخلية أيضاً كل شيء.
بوضوح وشفافية أكثر. قوى الداخل محكومة بالاتفاق والتوافق، السيد عمار الحكيم الذي خسر عملياً في الانتخابات في حين ربح الصدريون بسبب تعامل كل طرف ببراعة أو بغيابها بآلية الانتخابات، بدا حكيماً عندما دعا الى مشاركة كل القوى في صياغة السلطة التنفيذية. طموح نور المالكي برئاسة الوزراء, تحت بند الكتلة الأكبر هي التي تسمي رئيسها جعله يندفع نحو طرح صيغ تحالفات، تستبعد عملياً ومباشرة كتلة العراقية التي يرأسها اياد علاوي. هذا الاستبعاد شكّل فخاً للمالكي وللعراق معاً.
التحالف الذي يريده المالكي ترجمته تحالف القوى الشيعية مع الأكراد لتشكيل السلطة التنفيذية. مهما كان التفسير حاداً فإن ذلك يستبعد عملياً العرب السنة. الشرعية الشعبية السنية موجودة بالفعل في لائحة العراقية، أهمية اياد علاوي انه وهو الزعيم الشيعي نجح في تزعم العرب السنة على قاعدة التشابك بين الخارج والداخل ودفعهم نحو صناديق الاقتراع، السنة المتحالفون مع ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي يمثلون جزءاً بسيطاً من الشرعية الشعبية السنية لبننة النظام العراقي تفرض معادلاتها مهما كانت قاسية.
مثلما قيل ان الشرعية الشعبية الشيعية ممثلة في حزب الله وحركة أمل وان باقي الشرائح الشيعية التي تمتلك كفاءات واضحة ومعروفة لا تمثل هذه الشرعية، كذلك في العراق الوضع نفسه معكوس المذهب. هذه الضريبة الظالمة للمذهبية لا بد من دفعها في العراق كما جرى الدفع في لبنان.
الجميع في العراق يعرفون هذا الواقع ويدركونه. لا بل يعترفون علانية أو ضمناً. ان هذه اللبننة للنظام العراقي، تسير على حافة سكين العرقنة. طوال العامين الماضيين بذلت جهود ضخمة ومضنية اقليمية ودولية من أجل استعادة السنة الى تركية العراق الجديد. بعض هذه الجهود لم تكن فقط حباً بالعرب السنة وإنما أيضاً لأنه جرى خلط طائفة كبيرة وأساسية في تركيبة العراق بينها وبين الارهاب. تحول السنة العرب في العراق الى خزان بشري للمقاومة وللارهاب في وقت واحد، لأنه في مرحلة معينة لم يكن من السهل الفصل بينهما.
نجاح العرب السنة ربما في جزء أساس من جهودهم يعود الى التركيبة العشائرية في الفصل بينهم وبين الارهاب ممثلاً بالقاعدة وأخواتها. هذا الفصل شكل انجازاً ضخماً جداً للعراق وللمنطقة أيضاً.
لا يمكن لأي عراقي عاقل ولا لأي قوة اقليمية معنية بالعراق وبطبيعة الحال للولايات المتحدة الأميركية الباحثة عن شروط تخفيفية لانجاز انسحابها العسكري مع بداية العام 2011، القبول بعودة العرب السنة الى أحضان القاعدة تحت وطأة استبعادهم عن تشكيل السلطة التنفيذية. باختصار عن أخذ حقوقهم الشرعية في تركيبة العراق. هذه الحالة ذاقها العرب الشيعة في العراق، فوصلوا في رغبتهم بالثأر وأخذ حقوقهم الى حد التفاهم كمعارضة مع الأميركيين لإسقاط نظام صدام حسين.
الصدريون اختاروا في استفتاء شعبي ابراهيم الجعفري رئيساً للوزراء وبعده جعفر الصدر ابن الصدر الأول ثانياً. هذا الاستفتاء يؤكد على عمق الخيار الديموقراطي في العراق. حتى قيادة حزبية ليست مستعدة لفرض مرشحها على مناصريها. قد يقال ان الصدريين اختاروا الديموقراطية وسيلة للتخلص من أحادية ترشيح نوري المالكي. المهم انهم لجأوا الى الرأي الشعبي ليقرر. هذا الاختيار يؤكد مرة أخرى على انخفاض حظوظ المالكي برئاسة الوزراء. الأرجح أنه يعلم ذلك، ما يسعى اليه أن يكون في موقع لاتخاذ القرار العراقي. بدوره اياد علاوي لا يستطيع ان يقود لأنه لا يملك الشرعية الشعبية والسياسية لمن ينتمي اليهم أي الشيعة. حتى ولو انه كان حاضراً عند العرب الشيعة انما حضوره الأساسي مستمد من العرب السنة.
علاوي يعرف ذلك ولهذا فإنه غير متعلق بالمنصب. وجوده في المعادلة واضح. يبقى الرقم الصعب الذي له كلمته في اتخاذ القرار.
ترجمة هذه الوضعية في التوجه نحو اختيار شخصية ثالثة قادرة على ارضاء كافة القوى الداخلية والخارجية معاً، للوصول الى ذلك ما زال الطريق في بدايته. المفاوضات الداخلية جزء من المفاوضات الخارجية. التوقيع على الاتفاق النهائي يتطلب الكثير من الجراحات لأن حجم التنافس ضخم جداً أولاً ولأن المنطقة كلها، وخصوصاً العالم العربي يعيش على وقع استحقاقات ضخمة. الخطأ في الحسابات سواء كان من الداخل أو من الخارج، يعني انهيار العملية السياسية في العراق والعودة به الى المربع الأول الذي نشأ بعد الغزو الأميركي، اللعب بنار العرقنة أخطر بكثير مما يعتقد أو يتصور البعض. الحروب التي أنتجت اللبننة في لبنان، بقيت محصورة في المساحة الجغرافية الضيقة للبنان. العرقنة خارقة وحارقة لكل الحدود خصوصاً اذا ما أضرمت نارها هذه المرة باليأس من العملية السياسية.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.