سواء كان العراق قلب المنطقة، أو مركزها أو مفتاحها، كما تشدّد مختلف القوى العراقية، فالنتيجة واحدة. الفرق في الشكل، والاتفاق واضح على المضمون. هذا الوعي العراقي الجماعي لأهمّية العراق موقعاً ووجوداً في منطقة الشرق الأوسط كلها، يجد ترجمته في قاعدة أولى انّ تطوّر أوضاعه سلباً أو إيجاباً ينعكس حكماً على كل أرجاء المنطقة. الوجه الآخر لهذه القاعدة. انّ العراق الضعيف بعد كل سنوات الحروب الطويلة التي بدأت داخلية على السلطة وتمدّدت خارجياً مع إيران ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية ومعها العالم كله جعل الجميع يتقاتلون عليه سواء لفرض النفوذ أو لاقتطاع الجزء الأضخم من ثرواته، فالعراق قالب كاتو غني وشهي.
هذا التزاحم والتنافس الذي يدفع العراقيون ضريبته في كثير من الأحيان من لحمهم ودمائهم وعيشهم أشعل في حالات كثيرة الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار. حالياً بعد ثبوت رغبة الشعب العراقي بالديموقراطية نظاماً له، والتي من أولى قواعدها تبادل السلطة بين القوى السياسية، فإنّ المطلوب دفع العراق نحو الاستقرار، لأنّ استمرار الفوضى وانعدام الأمن يعني انعدام الفرص لاقتطاع القوى الداخلية والاقليمية والدولية على السواء، وأي حصة لها سواء كانت كبيرة أو صغيرة من الثروات والاستثمارات التي يتمتّع بها العراق. لهذا كله فإنّ كل القوى الخارجية مضطرة حكماً للتهدئة والتوافق والاتفاق على دفع المسار السياسي العراقي نحو الحل السياسي. هذا الحل لا يحصر السلطة في أحد ولا يلغي أحداً. مكوّنات العراق السياسية والمذهبية والعرقية، تصبح هذه المشاركة الداخلية وبالتالي تفرض على القوى الخارجية خفض سقف تنافسها وتزاحمها بسرعة، لأنّه كلما طالت مرحلة المفاوضات كلما كانت التطوّرات مفاجئة أكثر.
رغم انشغال العراقيين، مسؤولين وعاديين، بالتطورات التي وضعت العراق على حافة المجهول، فإنّ الرؤية واضحة بالنسبة لموقع بلادهم وسط تطوّرات المنطقة. تقول شخصية عراقية مؤثرة: حالياً يعيش العالم العربي وسط حراك واسع. المشاكل تنتقل على مساحته كلها، قمة سرت أجّلت القرارات لأنه لم تتوافر شروط الحسم. عادة لا يقع التوقيع النهائي إلا عند الوضوح. الوضع الاقليمي وحده ليس مسؤولاً، الوضع الدولي له الأفضلية. الولايات المتحدة الأميركية متردّدة وغير قادرة أيضاً على الحسم خصوصاً في مواجهة إيران، الحرب غير ممكنة لأنها مكلفة جداً والاتفاق السياسي بعيد جداً. كل ذلك لا بد أن ينعكس على مسار الوضع العراقي، ربما تكون القمة العربية الاستثنائية في نهاية العام الجاري موعداً مع حسم الخيارات، فيرتاح العراق والعراقيون ويأخذون ولو القليل من الاوكسجين الضروري لاستقرارهم وأمنهم السياسي والنفسي.
الرؤية الواضحة لدى العراقيين موزعة أيضاً على أسئلة واقعية جداً. السؤال الكبير الذي يواجههم هو كيفية إخراج العراق من دائرة الصراع الأميركي الإيراني؟ والسؤال المكمّل له هو: كيفيّة إعادة إعمار العراق من البنى التحتية إلى القمّة؟
يرى مسؤول عراقي يعرف الولايات المتحدة الأميركية أكثر من غيرهم ان الأميركيين سينسحبون لأنهم يريدون ذلك، لقد أخطأوا مرّة عندما أخذوا بصيغة الاحتلال، وهم لا يريدون مستقبلياً تكرار الخطأ بخطيئة مكلفة، حتى مسألة إقامة قواعد عسكرية لهم تبدو مستحيلة. العراق ليس اليابان الذي خضع بعد مآسي استخدام القنبلة النووية. والظروف تغيرت حالياً والولايات المتحدة الأميركية ليست مستعدة لمزيد من الخسائر البشرية من جنودها. حماية الجنود الأميركيين هَمٌّ فعلي للإدارة الأميركية ولقيادة الجيش الأميركي. الانسحاب الأميركي سيتيح حكماً الى انخفاض حجم النفوذ الإيراني بعكس ما يرى آخرون من أنّ النفوذ الإيراني سيزداد. وطنية العراقيين في قلب المعادلة. العراقيون يعرفون انهم أغنياء بأرضهم وثرواتهم وتاريخهم ولا يتحمّلون نفوذ أي دولة مجاورة أو غير مجاورة عليهم. لبننة النظام العراقي مرحلة وليست قدراً برأي شريحة عراقية متعدّدة المشارب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
شخصية عراقية على تماس كامل ومتكامل مع إيران ومن القلب في العرب الشيعة، يرى ان الحدود المشتركة مع إيران هي الأطول إذ تبلغ 1400كلم، والتاريخ المشترك أطول بكثير وهو مليء بتضاريس قويّة وحادّة، ذلك ان عشرات الحروب اجتاحت التوأمين. لذلك كله لا غنى لأحدهما عن الآخر لكن على قاعدة الاحترام المتبادل والكامل للسيادة. من الضروري تبادل توجيه رسائل تطمئن وقابلة لأن تكون مطمئنة.
العراقيون يستطيعون أن يطمئنوا الإيرانيين:
[ ان لا تجربة لديهم يصدّرونها إليهم ولا لأحد في المنطقة.
[ ان إيران جارة لهم وليست عدوّاً لهم وإنهم ليسوا مستعدّين لخوض حرب ضد أحد فكيف ضدّهم.
[ ان العراق جزء من المنظومة العربية، لكن ذلك لا يضعه في موقع الخصومة معهم.
[ العمل على تهدئة مخاوف طهران من ان النجف لن يأخذ موقفاً لا يتناسب مع أسس الجمهورية الإسلامية في إيران، أي باختصار الدخول في مواجهة مع نظام ولاية الفقيه.
هذه التطمينات العراقية هي التي ستدفع طهران للاقتناع بأنّ الاستقرار الأمني في العراق لصالحها، وان لنفوذهم سقفاً لا يمكن اختراقه دون إثارة حساسيات تاريخية على قاعدة وطنية متجذرة لدى العراقيين، كل هذه الشروط والقواعد تبدو وكأنّ العراق في موقع القوّة مع أنّ العكس حالياً هو الصحيح. إيران هي القوية وهي صاحبة النفوذ في العراق من الجنوب إلى الشمال وإن بنسب متفاوتة. المستقبل هو الذي يصيغ الحاضر. طهران تعرف جيداً أنّ العراق عصيّ عليها وعلى غيرها متى استعاد عافيته وقوّته.
استكمال خروج العراق من دائرة الصراع الأميركي الإيراني، تتم أيضاً في عودة العرب إلى العراق من بوابة الأخوّة، وقاعدة قوّة العراق قوّة لهم، وليس من ثغرة ان العراق ضعيف ويمكن فرض الشروط والنفوذ عليه. في مثل هذا المسار تشجيع ضمني للإيراني في تدعيم وجوده خصوصاً وأنّه على خلاف وحتى عداء مع جزء أساسي من العرب.
أخيراً، فإنّ عودة تركيا إلى الشرق تدعم مسار تحرّر العراق وخروجه من دائرة الصراع الأميركي الإيراني. تركيا القوية توازن إيران ونفوذها. الشرط الوحيد لكل ذلك وهو كما يبدو راسخاً في النشاط التركي انه ليس مذهبياً وإنما هو سياسة قائمة على استراتيجية التعاون والتفاهم مع المروحة الواسعة لمختلف الأطراف والقوى العربية ومن ضمنها القوى العراقية ومختلف شرائح الشعب العراقي.
العراق مفتاح الحل والحروب في وقت واحد. العرب قادرون على المساعدة في دفع العراق نحو باب الحل والاستقرار، أو الجمود والتجمّد بانتظار أن تهبّ عليهم رياح العرقنة الساخنة وحتى الحارقة.
خلاص العراق من خلاص العرب، والعكس صحيح.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.