كما لبنان والعراق، كذلك السودان. ليست الانتخابات هي المهمة إلاّ في كونها خطوة أساسية في مسار دمقرطة المجتمعات العربية. الأهم ما بعد الانتخابات. إفرازات الانتخابات التشريعية في لبنان أصبحت معروفة. حكومة اتفاق وتوافق بين مختلف القوى، بحيث وضعت الانقسامات خلفها لتتحرّك إلى الواجهة تبعاً للتطورات.
في العراق تشكيل السلطة التنفيذية هو الأهم. في قلب هذه العملية تقاطعات داخلية تقوم على توازنات مذهبية وعرقية من جهة، وخارجية عربية واقليمية ودولية من جهة أخرى. لذلك كله فإنّ أمام العراقيين وقتاً طويلاً مضرجاً بالدماء والدموع والقلق والخوف اليومي حتى يعرفوا تفاصيل تركيبة السلطة ومن ثم قدرتها على مواجهة استحقاق الانسحاب الأميركي في مطلع العام 2011.
السودان يخوض تجربة معقدة جداً على وقع استحقاقات تتناول وحدته ومصيره. مشكلة لبنان واللبنانيين مما جرى ويجري من الانتخابات وما بعدها، تبدو بسيطة جداً أمام ما يجري في العراق وما قد يجري في السودان. المسارات متشابهة إلى حد ما لكن التفاصيل مختلفة باختلاف الموقع والأهمية. لبنان جسر ومختبر لقضايا المنطقة، وقد جرى في الفترة الماضية تخفيف وطأة هذا الموقع وهذا الدور، لأنّ العراق أصبح هو المركز في المنطقة. في حين ان السودان هو المركز في القارة الافريقية. تطورات وضعه سترسم بالتأكيد مسارات مستقبل الدول والكيانات والحدود في القارة الافريقية.
الانتخابات في السودان ليست جامعة ولا مانعة. مجرّد أن يستعد الرئيس عمر البشير لخلافة نفسه بعد كل هذه السنوات الطويلة في السلطة، فإنّ ألف سؤال وسؤال يدور حول معنى وأهمية هذه الانتخابات. رغم مشروعية كل الأسئلة وطبيعة هذه الانتخابات فإنها تبقى مهمة وخطوة واسعة نحو صياغة المستقبل المعلق على كل الاحتمالات. ليس أمراً عادياً ولا بسيطاً بعد ربع قرن على انقلاب عسكري وحكم حزبي أحادي، ومذابح واسعة وحقيقية، أن يعود السودانيون إلى اكتشاف صناديق الاقتراع. حتى ولو كانت خيارات السودانيين محدودة فإنّها مهمة. الشعب السوداني كان الأعرق في ممارسة حرية الفكر والعقيدة حتى ابتلي بالنظام العسكري وبسياسي قدير ورهيب هو الدكتور حسن الترابي.
السودان تميَّز في وقت من الأوقات بتجربة فريدة من نوعها على مساحة العالم الثالث. عاش تجربة استثنائية مع الماريشال سوار الذهب. وعد الماريشال بأنه سيترك السلطة بعد سنة من تسلمها، ووفى بوعده. لم يجبره أحد سوى ضميره والتزامه الأخلاقي. لذلك يستحق السودان والسودانيون هذه العودة إلى صناديق الاقتراع ليستعيدوا ما أُخذ منهم بالقوّة. نظام عمر البشير اضطر تحت وطأة التطورات الداخلية والضغوط الخارجية إلى خوض تجربة الانتخابات. سينجح البشير في البقاء في السلطة لأنه عرف كيف يمزّق المهديين والخاتميين ويجعل من الحزبين اللذين يمثلانهما مجرد لاعبين اضافيين على المسرح، لكن استمراريته في السلطة محفوفة بالمخاطر.
رغم كل ذلك، فإنّ هذه الانتخابات تحمل في طيّاتها أخطاراً كبيرة على مستقبل السودان، الموجود في عنق الزجاجة. تشكُّل السلطة بعد الانتخابات حساس ودقيق، أي خلل في التوازنات، وأي انفراد في التشكيل، يضع السودان فوق البركان. في العراق الخلل قائم في طبيعة المشاركة للقوى المذهبية والسياسية والعرقية. في السودان المشكلة أكبر بكثير، لأنّ العملية كلها على موعد مصيري. في التاسع من كانون الثاني من العام 2011، سيجري الاستفتاء حول مصير وحدة السودان. السؤال: هل سيقترع الجنوب للاستقلال أم يبقى في اطار دولة فيدرالية؟ وماذا يحصل في باقي الأقاليم خصوصاً في دارفور وكردفان؟
رياح الانفصال قوية وهي كانت وما زالت تتدفق لتهبّ على السودان. تشجيع انفصال الجنوب عن الشمال السوداني، يعني وضع السودان كله على طريق حرب تشبه إلى حد كبير ما حصل عندما انفصلت باكستان عن الهند. السؤال: كيف سيتعامل الشماليون مع الجنوبيين المقيمين في الشمال بعد أن تقترع الأغلبية منهم للانفصال؟ من الواضح أنّ موجة من الهجرة وربما التهجير ستقع باتجاه الجنوب. الشماليون في الجنوب وإن كانوا قلّة بعكس الجنوبيين في الشمال سيتعرضون لحملات انتقام وثأر. مشاهد ما حصل على طرق الهجرة المتبادلة بين الهند وباكستان قد تتكرر بقوة وعنف أكثر لأن أحقاداً ناتجة عن نصف قرن من الحروب الأهلية مزروعة في الذاكرة الشعبية السودانية.
أيضاً، هل يقبل الشمال السوداني ببساطة أن يخسر النفط الموجود في الجنوب؟. على الأقل سيطالب بحصة له، فماذا سيحصل إذا رفض الجنوبيون ذلك؟ هل يقف الشماليون مكتوفي الأيدي؟ الأخطر أن انفصال الجنوب سيشجع أهالي دارفور وكردفان على المطالبة بالانفصال. السودان واقع على خط زلزال قوة زلازله عشرة على عشرة في ميزان ريختر.
إذا فرقع السودان، فعلى افريقيا السلام. الاتفاق معروف بين الدول الغربية القديمة من أوروبية والحديثة أي الولايات المتحدة الأميركية على حماية الحدود المصطنعة لدول القارة الافريقية. قبول انفصال ارتيريا عن اثيوبيا كان سابقة قائمة على وضع خاص استثنائي. إذا وقع القبول الغربي بانفصال الجنوب عن الشمال في السودان، كرّت سبحة الانفصال لدول المنطقة. ليتذكر الجميع دعوة العقيد القذافي ملك ملوك افريقيا إلى تقسيم نيجيريا بين المسلمين والمسيحيين، ثم تراجعه عن ذلك بعد اكتشافه ان النفط سيكون من حصة الجنوب المسيحي، وطرحه من جديد التقسيم على أساس عرفي. كل الدول الافريقية مرشحة لهذا المصير، فهل العالم مستعد لاشتعال حروب انفصالية تعيد رسم خريطة القارة الافريقية؟
سؤال إضافي، ماذا ستفعل مصر إذا وقع المحظور وانفصل الجنوب عن الشمال في السودان. هل تتحمّل هذا التحوّل المؤثر على علاقاتها ومصالحها التاريخية، والأهم على مصالحها المائية الموجودة في نهر النيل؟
أيضاً إذا دفع السودان في تجربة مثل هذه التجربة، ماذا يضمن لواشنطن وللغرب معها عدم انفلات القاعدة وتمددها بقوة وبروح ثأرية من قِبَل السودانيين الإسلاميين الذين لا بد أن يحمّلوا الغرب مسؤولية التقسيم واشتعال الحروب الأهلية؟ الغرب كله يواجه بعجز واضح معضلة الصومال فكيف بالسودان؟ لا شك أنّ العالم سيعرف بعد اللبننة والعرقنة والصوملة تعبيراً إضافياً هو السودنة.
منطقة الشرق الأوسط ليست وحدها على طاولة صياغة خريطتها. يبدو أن اتفاق سايكس بيكو قد شارف على النهاية. ما يحدث في السودان، قلْب افريقيا وسلة الغذاء فيها، يؤكد ان القارة الافريقية وضعت على طاولة مشابهة للأولى. أمام هذا كله من الأفضل والأسلم التعامل مع التطورات بهدوء ورويّة وصبر، حتى لا تقع المفاجآت على حسابنا، خصوصاً الحلقات الأضعف فيها مثل لبنان.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.