واشنطن تريد أن يكون حزيران القادم، موعداً لإقرار مجلس الأمن الدولي بالإجماع لمشروع قرار جديد للعقوبات ضد الجمهورية الإسلامية في إيران. لم يعد أمام الرئيس باراك أوباما من خيار في الوقت الحاضر سوى الدخول في مسار للعقوبات المشددة والشديدة. المفاوضات أخذت وقتاً طويلاً. لقد استنفدت حوالى 14 شهراً من الولاية الأولى لأوباما.
طهران ناورت ببراعة معتمدة في الأساس على امساكها بملفات ساخنة بعضها يمس الأمن القومي الأميركي مباشرة أبرزها في أفغانستان والعراق. إصرار القيادة الإيرانية على عدم العودة الى الوراء في الملف النووي، لا يترك أمام أوباما الكثير من الخيارات، طالما أن الحرب مستبعدة فالحل في الوقت الحالي هو العقوبات.
بين الرغبة والطموح من جهة، والإمكانيات من جهة أخرى، مسافة صحراوية طويلة جداً. يجب عبور هذه الصحراء كما يقول الفرنسيون بصبر وتصميم، حتى يمكن الوصول الى القرار. الجفاف الصحراوي خارج أساساً من الموقف الروسي الصيني. من الواضح أن لكل منهما خطاً أحمر لن يكسره. من الممكن التقدم خطوة هنا أو هناك، أو تقديم تنازلات معينة، لكن المس بالمصالح الاستراتيجية والاقتصادية ممنوع بالمطلق. موسكو ليست مستعدة للتخلي عن إيران التي هي على طلاق مع واشنطن، حتى لو كان حصول زواج متعة معها، بعيد جداً. التنين الصيني الذي يكاد لا يعرف حدوداً لحجم شراهته للمواد الأولية خصوصاً النفطية منها، ليس مستعداً للتضحية بحاجاته وخصوصاً ان الإمكانات الأميركية المقدمة له محدودة جداً.
باريس الساركوزية، هي الأكثر تشدداً. تريد عقوبات ذات أنياب ليس لديها ما تخسره. ربما تأمل بالربح. من لا يشارك في الدفع ليس شريكاً في الربح، تعرف باريس ذلك. لكن ساركوزي يريد تقديم قوة دفع لإسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى تسويق تجارته في بيع مفاعلات نووية في منطقة الشرق الأوسط. في الأمرين يبدو وكأنه نجح. أبعد من ذلك طالما أن أوباما لم يتقبله شريكاً له كما كان توني بلير مع جورج بوش، فإن ساركوزي لن يتألم ويحزن إذا خسر أوباما وظهر بمظهر الرئيس الأميركي العاجز، وليس الرئيس الأميركي الذي دخل التاريخ. مأساة ساركوزي انه لم يدخل التاريخ ولن يدخله كما كان يطمح، فلماذا سيتأثر من بلل الآخرين وهو الغريق.
الإدارة الأوبامية تريد عقوبات قاسية جداً ضد إيران السلطة وليس الإيرانيين. تعرف واشنطن في أعمق أعماقها أن الإيرانيين لا يحملون ضغينة ولا كراهية ضدها. الخلاف معهم مرحلي وليس أبدياً. من الأفضل لواشنطن على الصعيد الاستراتيجي المحافظة على هذه الحالة. ايذاء الإيرانيين في يومياتهم ومعاشهم وصحتهم، كما حصل مع العراقيين، يضرب أسس هذا الجسر الخفي بين واشنطن وطهران. أيضاً كل قرار يبعد الإيرانيين عن واشنطن خطوة يدفعهم نحو روسيا خطوات. لا داعي للمغامرة. الهدف هو ليّ ذراع النظام الإيراني، من جهة والخروج من حالة الرفض الروسي الصيني لهذه السياسة.
هذه السياسة لا تكفي للنجاح، المواجهة متعددة الجبهات وكثيرة الوسائل، خصوصاً وأن النظام الإيراني لن يقف مكتوف الإيدي ينظر بلامبالاة الى سياسة العقوبات حتى لو طالته فقط. حق الدفاع مشروع. الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يقول ان على واشنطن القبول بإيران كما هي. المشكلة انه لا يوجد حدود مرسومة أو معروفة لما هي إيران عليه. المواجهة مفتوحة، وإيران تريد الحصول على أكثر ما يمكنها، في حين ان الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تسمح لها بأقل ما هو مسموح أو ممكن.
طهران، وفي محاولة واضحة للتأكيد أن العالم وتحديداً الغرب بحاجة اليها، وانه لا جدوى للعقوبات ضدها، تنظم معرضاً دولياً للنفط والغاز والتكرير والبتروكيماويات. الإعلان الإيراني يقول إن 434 شركة أجنبية من 31 دولة تشارك الى جانب الشركات الإيرانية الوطنية. لائحة الدول كثيرة منها حسب الإعلان الرسمي الذي لم ينفه وهي تضم: الصين والنمسا واسبانيا وأوكرانيا والإمارات وبريطانيا وايطاليا وألمانيا والبرازيل وبلجيكا وتايلند وتايوان وتشيكيا والدانمارك وروسيا ورومانيا واليابان وسنغافورة والسويد وكندا وسويسرا والسعودية وعمان وفرنسا وفنلندا وكوريا الجنوبية والمكسيك والنرويج والهند. العالم بحاجة للنفط والغاز، والإيرانيون يرون أنهم جزء أساسي من هذه الحالة خصوصاً وأن بلادهم تملك احتياطاً يبلغ نحو 30 تريليون متر مكعب من الغاز عدا النفط.
باراك أوباما لن ييأس، سيعمل طوال الأسابيع القليلة المقبلة على صياغة حل يخفض فيه سقف التشدد الفرنسي ويرفع فيه السقف المعاكس التشدد الصيني الروسي. لكن تبقى مشكلة أوباما مزروعة في منطقة الشرق الأوسط. لقد صاغ أوباما تحولاً استراتيجياً عندما ربط السلام والحرب في الشرق الأوسط بالمصالح القومية الأميركية. هذا مهم جداً. الأهم صياغة آلية منتجة لهكذا رؤية. غياب هذه الآلية يرفع من منسوب الاحباط الذي يقود الى تفشيل كل السياسات، ويؤكد ثبات مقولة التعامل بوزنين للمسألة الواحدة.
حالياً يشرف أوباما كما يتم التسريب من واشنطن بنفسه على ملف الشرق الأوسط وهو يعيد تقييم كل الخطوات التكتيكية التي تستخدمها ادارته بكل ما يتعلق بإسرائيل والشرق الأوسط بأسره. من أجل ذلك يستخدم كل الامكانات للحصول على تغيرات أساسية. تركيا أولاً والآن البرازيل تساعدانه على الصعيد السياسي، الرئيس البرازيلي لولا الذي سيزور طهران مطلع الشهر المقبل، ينسق حكماً مع أوباما الذي التقاه خلال القمة النووية في واشنطن. سياسة البرازيل ليست ملحقة بواشنطن لكن من الواقعي جداً انها حليفة، بينهما مصالح استراتيجية مشتركة. لولا الرئيس الذي لا يمكن التشكيك بمواقفه الايجابية، يحمل رسالة واضحة لإيران، وهو أعلن انه سيقول للرئيس أحمدي نجاد وجهاً لوجه بالعواقب الوخيمة اذا ما ظل على مواقفه.
على الصعيد العملاني في المنطقة، لا يمكن التغافل ولا التنكر للموقف الأوبامي، في خلال أقل من عشرين يوماً، منع أوباما اسرائيل من هجوم مؤكد ضد حماس في غزة بعد العملية التي أدت لمقتل جنديين اسرائيليين. أوباما لا يريد تكرار ولو حرب مصغرة للرصاص المسكوب. اثارة العرب والمسلمين وتحديداً تركيا ضد هذه الحرب أو العملية، تعني توجيه ضربة قوية لجهوده من أجل اطلاق مسار للحل في المنطقة. أيضاً أوباما حال على الأرجح دون مهاجمة اسرائيل لما تدعيه بقافلة صواريخ سكود مرسلة من سوريا الى حزب الله في لبنان. سواء كانت العملية صحيحة أو غير صحيحة، اسرائيل ترغب في توجيه رسالة قوية الى دمشق بأنه حان الوقت للتوقف عن تزويد حزب الله بالأسلحة. لم يكتف أوباما بذلك، بل أكدت ادارته تسمية السفير فورد في دمشق. الرسالة واضحة جداً، لا عودة عن مسار التطبيع مع دمشق الا في حالة استثنائية جداً لا تبدو معالمها في الأفق المنظور.
طهران ستقرأ بعناية وستتابع بدقة العقوبات وتنفيذها. اذا وجدت نفسها فعلاً في حالة حصار، سترفع منسوب ردها ضد واشنطن والدول الغربية مع الابقاء على تحييدها لروسيا والصين. تأخير تشكيل الحكومة العراقية مع ما يخلق ذلك من فراغ مربك للأميركيين والعراقيين والدول الاقليمية سيكون أحد الأسلحة المباشرة لطهران. في غزة ولبنان، سقف الرد الايراني محدود حالياً. لا يمكن الدخول في مغامرة عسكرية واسعة في غزة. أما في لبنان، فإنه لا يمكن التعكير على الموقف السوري. دمشق مرتاحة للمسار اللبناني حالياً ولا يمكن تعريضه لأي خلل يربكها. من الممكن التصعيد في أفغانستان. واشنطن تستعد لربيع أفغاني ساخن في جميع الأحوال.
في جميع الأحوال ستعمل كل الأطراف على ابقاء المواجهات في حدود دوائر محدودة حتى نهاية العام 2010. على الأقل يجب معرفة نتائج سياسة العقوبات قبل الدخول في مسارات أخرى بعضها خطر وخطير.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.