8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

اسرائيل تتجسّس على لبنان والعراق اقتصادياً واجتماعياً على قاعدة طويلة الأجل

62 عاماً مضت على اغتصاب فلسطين وإنشاء إسرائيل. الصراع مستمر، وهو يتأرجح دائماً بين الحرب والحرب، أما السلام فعليه السلام. الإسرائيليون لا يريدون حدوداً نهائية لدولتهم، أرضاً ونفوذاً. قدراتهم على فرض ما يريدون تنخفض سنة بعد سنة، ومرحلة بعد مرحلة. انتهى من جهة زمن الحروب الخاطفة، ومن جهة أخرى تراجعت علاقات التسليم الغربية وخصوصاً الأميركية بأنّ إسرائيل في خطر وجودي دائم وانها في حالة دفاع مشروع عن النفس. التطورات في العقد الأخير أدخلت أيضاً إلى العقل الاستراتيجي الغربي، خصوصاً الأميركي منه، بأنّ الشرق الأوسط ينتج يومياً أنواعاً من العنف الأسود المهدّد للعالم بسبب الصراع العربي الإسرائيلي. هذا الوعي حتى ولو كان محدوداً حتى الآن، فإنّ أغصانه بدأت تورق وتشاهد من بعيد، وتلمس في أكثر القرارات حساسية.
لم ييأس الإسرائيليون حتى الآن. في اللحظة التي يدخل فيه اليأس الوعي الشعبي الإسرائيلي تتبدل المعادلات نحو هجرة واسعة إلى الخارج، ومحاولة لتثبيت مقولة عليّ وعلى أعدائي، فقيام يوم القيامة النووي وتكرار اسطورة الماسادا التي اختار فيها اليهود الموت الجماعي على الاستسلام كما يقدمونها تاريخياً. الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من يسارية ويمينية ويمينية متطرّفة كما هي عليه الآن، تعمل دائماً وفق استراتيجية طويلة الأمد على قاعدة الثوابت والمتغيرات. النجاح فيها محسوب والفشل متوقع، لكل شيء حسابه، وردّة فعله.
العرب متعلّقون بأرضهم وتاريخهم. لكنهم منذ 62 عاماً ليست لديهم استراتيجية واحدة ولا حتى استراتيجيات متعدّدة تتقاطع أو تتباعد بالفعل وردّة الفعل، حتى بناء المجتمعات المؤهلة للمواجهة غائب. كل شيء يعتمد على التسليم بالمتغيّرات لصياغة المواجهات. الثوابت غائبة. المتغيرات هي الثابت الوحيد. لو لم تكن فلسطين موجودة في قلب الذاكرة الشعبية العربية، لكان اليأس قد أنهى العلاقة مع الأرض والقضية معاً.
بناء الاستراتيجية في صراع وجودي مثل الصراع العربي الإسرائيلي ليس فقط عسكرياً. لا بد أن تكون الاستراتيجية التي توضع شاملة. هذه فضيلة لدى العدو الإسرائيلي وفضيحة عند العرب. في قلب الاستراتيجية الإسرائيلية المواجهة مع لبنان والعراق. لهذا التركيز أسباب موجبة قد تختلف في بعض حيثياتها، لكنها تتلاقى وتتوحّد في أهدافها. المواجهة مع لبنان لم تتوقف يوماً رغم ان لبنان أضعف الدول العربية، وهي كانت وما زالت متعددة. قمّتها وصلت في الاحتلال أكثر من مرة والتحرير مرات عديدة بقوة المقاومة المتواصلة والصمود الشعبي. أما العراق فالمواجهة وإن بدت حديثة إلا أنها في الواقع قديمة تعود إلى عملية بساط الريح التي جرى خلالها تهجير اليهود العراقيين في أكثر العمليات الصهيونية نجاحاً.
المسيحيون في قلب هذه المواجهة. إسرائيل لا تحتمل المجتمعات الغنية بتعددها، خصوصاً المسيحيين الذين يشكلون ملح هذه التركيبة التي بدونها يصبح الشرق لا طعم ولا رائحة له. إسرائيل لعبت دوراً مهماً في الحروب الأهلية اللبنانية. عملت على إنجاح عملية فصل المسيحيين عن مجتمعاتهم في الشرق عبر لبنان. فشلت إلى حد كبير. المحاولات مستمرة كما في العراق، تهجير المسيحيين العراقيين جزء من الحرب الإسرائيلية المفتوحة على العراق.
نجاح لبنان بالوقوف في وجهها يدفع إسرائيل ضمن استراتيجية واضحة إلى تفكيك المجتمع اللبناني الفسيفسائي. العراق الذي يملك أسس الدولة من جهة وثروتي النفط والماء أخاف ويخيف إسرائيل. لا شيء يخيف الكيان الإسرائيلي أكثر من قيام الدولة فوق أي جزء عربي، فكيف بالعراق ولبنان الغنيين بنسب متفاوتة وبعناصر، بعضها مشترك وبعضها مغيب. قد تكون أخطاء الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قاتلة، لكن يجب الاعتراف بأنّ قيام مشروع دولة قوية في العراق أخاف إسرائيل ودفعها للحرب ضدّه على أساس استراتيجية متكاملة ما زالت تنفذ بدقة حتى اليوم.
لا يمكن فهم أبعاد الاستراتيجية الإسرائيلية ضدّ لبنان إلا من خلال الحرب المفتوحة ضدّ مواقع تمركز المهاجرين اللبنانيين في العالم، خصوصاً في افريقيا وأميركا اللاتينية. الاغتراب اللبناني يخيف إسرائيل، رغم عدم استثمار لبنان له ضمن خطة متكاملة. ما زالت الإفادة من الاغتراب فردية وعائلية. لم تتحوّل إلى استثمار مبرمج ومخطط طويل الأجل. إسرائيل ترى في الكادرات اللبنانية المنتشرة في العالم، سلاحاً ضدّها، لذلك الحرب مفتوحة في الخارج، ولبنان ما زال عملياً غائباً عن تفاصيلها.
الحرب الإسرائيلية الأخرى ضدّ لبنان تتجاوز بكثير العسكرية منها. خبير أمني يرى في صلب هذه الحرب استراتيجية موضوعة لأكثر من عقد أو عقدين من الزمن. يتساءل بقوة بعد أن يقول: شبكات التجسّس الإسرائيلية التي تساقطت في لبنان وما زالت تتساقط يومياً، متعدّدة المهمّات وكثيرة الأهداف. ليست مهمة هذه الشبكات كما يعتقد الكثيرون أمنية وعسكرية فقط. بعض هذه الشبكات الناشطة جداً اقتصادية اجتماعية، بعضها كان مكلفاً بتقديم قراءة دقيقة للسوق اللبناني وتحوّلاته. أكثر من ذلك، كانت بعض الشبكات مكلّفة برسم خرائط اقتصادية دقيقة لشوارع بيروت، بعضها لا يعني شيئاً. من ذلك معرفة المحلات وتجاراتها وتحولاتها من فترة إلى أخرى تبعاً لنوعيتها وخصوصاً ملاّكها. أي مثلاً هل حصل تغيير في ملكية المحلات التجارية في شارع معين ولمصلحة مَنْ؟.
مطلوب كما هو ثابت من عملاء معنيين وضع خرائط طريق لطبيعة المسارات الاقتصادية مهما كانت صغيرة وغير مهمة حالياً. الهدف قراءة تطوّر الأوضاع الاقتصادية من جهة وتحولات الملكية وما تعنيه من تغيير في عمليات تجميع رؤوس الأموال والثروات. على هذه القاعدة يمكن بناء استراتيجية للمواجهة مع الطوائف. في أساس هذه الخريطة معرفة التحولات الاقتصادية على المدى المنظور، وكل ما يتعلق بالشرائح الاجتماعية والمذهبية والطائفية. أما التجسّس على المصارف وتحويلات رؤوس الأموال والعمليات المالية الكبيرة والصغيرة على السواء فإنها مهمة جداً على المدى القصير. إسرائيل تعمل أيضاً على رسم خريطة دقيقة للتحويلات المالية، لاستخدامها داخل لبنان من جهة وخارجه من جهة أخرى ضدّ تجمّعات المغتربين.
الحرب خطر قائم ودائم. السلام احتمال معلّق على جملة تحوّلات لا تبدو واردة في الأفق المنظور. ليس من السهل تغيير قناعات تاريخية دون ضمانات حقيقية. الانتصارات الخاطفة أصبحت مستحيلة. كل هذا يجعل من الصراع العربي الإسرائيلي أطول الصراعات في التاريخ. من الآن وحتى يضع العرب استراتيجية متكاملة تأخذ في الاعتبار إمكاناتهم، فإنّ إسرائيل مرشحة للبقاء شوكة في عين منطقة الشرق الأوسط.
[email protected]

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00