التهديد الاسرائيلي بإرجاع سوريا الى العصر الحجري، غير مسبوق منذ سنوات في عنفه وحدّتِه. المفروض أن المباحثات غير المباشرة التي جرت بين دمشق وتل أبيب عبر تركيا، قد أنتجت على الأقل نوعاً من التعارف والمعرفة للخطوط الحمراء في الخطاب والممارسة. يبدو أن التطورات الجارية، خصوصاً الشعور القائم بالعجز من الخروج من الأفق المسدود, رفع المحظورات بكل ما يتعلق بالخطاب السياسي، شكلاً ومضموناً. لا يمكن لدمشق حيال مثل هذا التهديد وهذا العنف الخطابي، أن تقف مكتوفة الأيدي. الرد ليس بالضرورة خطابياً. من الأفضل كما يبدو التدرج في الرد وأن تكون بدايته التحرك السياسي على كل الجهات.
القمة السعودية السورية المصرية، المفترض انعقادها في شرم الشيخ، ليست بنت هذه التهديدات. الرياض تعمل منذ فترة على اتمام المصالحة بين دمشق والقاهرة. صحة الريس، أخّرت موعد القمة والمصالحة، توقيت القمة حالياً يعطيها زخماً اضافياً. دمشق بحاجة لها في هذا الوقت لدعم موقعها في مواجهة التهديدات الاسرائيلية.
أصلاً الرياض لا تبخل بهذا الدعم، والقاهرة لا تتمنع عنه بعيداً عن الخلافات المعروفة. دمشق عرفت كيف تؤكد مكانة هذه القمة وأهميتها بالتأكيد على انها مع أي دولة عربية في حال خلافها مع ايران، لكنها أيضاً أكدت بأنها لن تتخلى عن تحالفها مع حليفتها ايران. بهذا تعمل دمشق على حماية ميمنتها وميسرتها في وقت واحد من دون أن تقدم تنازلات فورية لأحد خصوصاً واشنطن.
لاشك أن التصعيد الاسرائيلي ضد سوريا، متعدد الأسباب والأهداف. رفد دمشق لـحزب الله بالسلاح للمقاومة وتثبيت موقعه كقوة يحسب لها حساب على مختلف الصعد، ليس سراً. دمشق تعتبر ذلك فعل مقاومة بعيداً عن موقع الأرض في المقاومة.
المشكلة أن التصعيد في نوعية الأسلحة وليس فقط في كميتها التي وصلت الى حزب الله حسب الأنباء المتواترة هي التي أنتجت هذا الوضع. امتلاك حزب الله صواريخ سكود، بعد حصوله على صواريخ ايغلا اس مان، المضادة لطائرات الاستطلاع والهليكوبتر (حسب المعلومات الأميركية الاسرائيلية) يقلب الموازين استراتيجياً. إغلاق السماء اللبنانية في وجه طائرات الهليكوبتر يحرم سلاح المدرعات الاسرائيلي الحماية والدعم ضد رجال المقاومة المزروعين في الأرض. في حين ان صواريخ سكود تفتح كامل المدن الاسرائيلية خصوصاً في الجنوب أمامها. هذا التحول لا تتحمله اسرائيل ولن تتقبله. لذلك ستبحث فعلاً، كما ترى واشنطن، عن أي قاعدة محتملة لسلاح الصورايخ في لبنان لتوجيه ضربة تشكل رسالة واضحة العنوان لدمشق.
واشنطن لاتريد الوصول الى هذه المرحلة. حالياً ليس من مصلحة الادارة الأوبامية حصول أي نزاع مسلح ولو محدود بين اسرائيل ولبنان ودمشق، لذلك عملت طوال الأسابيع القليلة الماضية على منع تحول التصعيد الخطابي الى تصعيد ميداني ونجحت حتى الآن، ولو على حساب مواقعها داخل الكونغرس وتحديداً لدى الديمقراطيين قبل الجمهوريين. تكفي قراءة الرسالة التي وجهها أكثر من 300 نائب الى الرئيس أوباما لوقف تدهور الموقف واعادة العلاقات مع اسرائيل الى قوتها ومتانتها، لتقدير مدى حرج الادارة الأوبامية.
طبعاً واشنطن، وهي تؤكد على تسلم سفيرها فورد منصبه في دمشق، جادة في فتح قنوات ديبلوماسية جديدة تسهم في تفادي النزاع مع القيادة السورية. لكن هذه الجدية لاتحول دون قراءة أميركية للموقف السوري من زوايا عديدة تدفعها لتشديد خطابها كما حصل في البيان الصادر عن وزارة الخارجية الى درجة التحذير من خطورة الخطأ في التقدير وما قد ينتج من تصعيد كهذا. من بين الزوايا التي تقرأها واشنطن في الموقف السوري:
*ان دمشق تخلت مؤخراً عن الطابع العام الذي يطبع سياساتها وهو الحذر. ربما شعور دمشق بالانتصار قد دفعها إلى القفز فوق حذرها الدائم. عودة دمشق إلى سياستها الحذرة ملحّ حداً، ترجمة ذلك تحت المتابعة خصوصاً بكل ما يتعلق بتسليح حزب الله والوضع العراقي.
*تخشى واشنطن انها وفي خضم إدارتها لمواجهة الملف النووي الإيراني، أن يكون هدف التصعيد السوري إرباكها وتشتيت تركيزها في كل ما يتعلق بإدارة المواجهة، خصوصاً وأن الحلف الإيراني السوري مدعوم بآلية تنسيق دقيقة وقوية.
إلى جانب ذلك، رغم ان واشنطن صعّدت في وجه دمشق خطابياً، فإنها لم تصل إلى توجيه اتهامات مباشرة لها، تدفعها لاتخاذ خطوات عملية جدية. فقد أكد بيان وزارة الخارجية بعد اللقاء مع نائب رئيس البعثة الديبلوماسية السورية في واشنطن انها لم تتوصل إلى رأي قاطع بشأن ما إذا كانت الصواريخ من نوع سكود قد وصلت إلى حزب الله. هذا الشك الصريح والعلني هو في مصلحة دمشق المتهمة، لأنّ المتهم بريء حتى يثبت العكس. واشنطن ترى حالياً في التصعيد السوري رسالة لها للضغط على إسرائيل لدفعها نحو طاولة المفاوضات غير المباشرة وضرورة انخراطها في مثل هذه المفاوضات لكي تنجح. مثل هذه القراءة الإيجابية تدفع واشنطن إلى مثل هذا التحرك المتوازي والمتوازن بين تل أبيب ودمشق، على الأقل أصبحت واشنطن تضغط على إسرائيل بعد أن كانت تنفرد بالضغط على العرب.
المفاوضات بالنار دخلت مرحلة جديدة. التصعيد الأخير يؤكد ان لا أحد يريد الحرب، ولا أحد في الوقت نفسه مستعد للجلوس فوراً إلى طاولة المفاوضات. لم ينضج الوضع للخروج من حالة الجمود المأزوم ولا التوتر المضبوط ما زال أمام مختلف القوى مراحل اختبارية بعضها صعب وحتى خطير. تبادل كرات النار على وقع وصول أو عدم وصول صواريخ سكود إلى لبنان لا يمكن دائماً ضبطه، خصوصاً وأن بعض هذه الكرات خارقة حارقة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.