الحرب الباردة، الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وصلت في الأسابيع القليلة الماضية الى ذروتها. الهدوء الحذر على الجبهات في غزة ولبنان وحتى الجولان، ليس مريحاً لكل الأطراف مع الاختلاف في الأسباب. هذا الهدوء يفرض جموداً في الحركة، وتقوقعاً منتجاً للتطرف. استمرار حالة السلام والحرب معلقة، تضع الجميع أمام خطر الانزلاق المفاجئ نحو الانفجار. المواجهة أسوأ ما في هذا الانزلاق لأنه يأتي من خارج كل الحسابات مما يجعل النتائج مجهولة في أكلافها ونتائجها.
من الآن وحتى تبلور خريطة طريق نهائية للعمل في منطقة الشرق الأوسط، فإن مزيداً من القرارات المعقدة ستصدر تباعاً. أوباما يريد جر الجميع الى طاولة المفاوضات. أو بالأحرى الى طاولتي المفاوضات: واحدة مع الايرانيين، وثانية لإسرائيل والفلسطينيين أولاً وفي مرحلة لاحقة سوريا ولبنان وإسرائيل. عمق الخلافات، وشعور كل طرف بقدرته على المقاومة والتمنّع والتحصن بالموقف الشعبي، يدفع نحو مزيد من الجمود. التوصل الى إقناع الأطراف بالتفاوض في هذه الأجواء مهمة صعبة جداً تكاد تصل الى حد الاستحالة أحياناً. كل ذلك يفرض الغموض حتى على صعيد القرارات التي تبدو أحياناً متناقضة على مختلف الجبهات:
الرئيس باراك أوباما، جدد العقوبات الاقتصادية على سوريا لسنة كاملة، مستنداً على قانون محاسبة سوريا. أوباما بدا في قراره وكأنه يريد تأكيد واقعيته السياسية حتى يبني الآخرون عليها بعد أن يأخذوا بها. أوباما أشار الى أن الحكومة السورية أحرزت بعض التقدم في كبت شبكات المقاتلين الأجانب التي ترسل الانتحاريين الى العراق. هذه ايجابية كبيرة تسجل لدمشق. أهميتها مضاعفة بالنسبة لواشنطن لأنها تأتي في مرحلة دقيقة يعمل الأميركيون على تحقيق الانسحاب العسكري من العراق من دون تركه في حالة من الفراغ الأمني ومن ثم السياسي.
السلبية التي دفعت أوباما لتجديد العقوبات جرت في صيغة تحذير شديد اللهجة. ما يرفع من منسوب التحذيرات انها جاءت في رسالة موجّهة الى الكونغرس إذ يقول: ان سياسات سوريا وإجراءاتها تشكل تهديداً مستمراً وغير اعتياد للأمن القومي وللسياسة الخارجية وللاقتصاد الأميركي. لا أحد في الولايات المتحدة الأميركية ينظر بخفة الى أي خطر يتهدد الأمن القومي لأنه أولوية الأولويات. لا شك ان أزمة صواريخ السكود شكلت حافزا ودافعاً لمثل هذا القرار المتناقض جملة وتفصيلاً مع الانفتاح الحاصل على مسار تطبيع العلاقات السورية الأميركية، وخصوصاً أن السفير المعيّن روبرت فرود ينتظر مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينه للتوجه الى دمشق. هذا التناقض على مسار التطبيع يتضمن جائزة ترضية لإسرائيل، قد ترضيها وتدفعها برأي اشنطن الى ترطيب موقفها المتطرف، فتركب قطار الحل السياسي. لكن في الوقت نفسه يعني ان السياسة الأميركية منذ خمس سنوات المتعلقة بضرورة تحسين دمشق لسلوكها، ما زالت قائمة. بتعبير آخر ما زالت واشنطن تُخضع دمشق للملاحقة والمتابعة والمحاسبة. هذه السياسة في مرحلة التطبيع قد تدفع الى مزيد من الحذر المتبادل واستمرار انعدام الثقة، مما يضع الطرفين على أعصابهما كما يقال، ويدفع أحياناً الى قرارات سلبية من باب الدفاع عن النفس. ما يعزز ذلك أن دمشق مقتنعة بسياستها في التحالف مع إيران وحزب الله، وهي لن تتخلى عن هذا التحالف مهما اغضب واشنطن. بعيداً عن أسباب العلاقة، لا يوجد عاقل يتخلى عن سلاحه ودرعه ويذهب الى خصمه عارياً للتفاوض معه. هذه أيضاً واقعية سياسية لا إشكالية حولها.
مقاطعة الغرب خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية أحمدي نجاد الرئيس الإيراني اثناء خطابه في الأمم المتحدة، لا يحل المأزق الحقيقي الذي يعيش فيه الجميع، رغم هذه الخطوة لا يبدو أن واشنطن وأحمدي نجاد يريدان الصدام تكفي الآن المواجهة الخطابية، لا بل أنه عندما يقول أحمدي نجاد في خطابه ان على أوباما مواجهة الضغوط وعدم الرضوخ لها قاصداً الضغوط الداخلية فإنه يؤشر الى تفهم طهران لوضع الإدارة الأوبامية وانها أيضاً تبذل جهوداً ايجابية تثير اعتراضات أميركية داخلية ضدها. نجاد رغم نارية خطابه يترك الباب مفتوحاً بشكل موارب أمام الحل.
أكثر من ذلك، فإن اطلاق فرنسا للمعتقل الإيراني عندها كاكواند والاستعداد لاستقبال الفرنسية الإيرانية المعتقلة كلوتيدراس في طهران في عملية تبادل واضحة، اشارة الى واشنطن الى أن المفاوضات هي الطريق الى الحل، ذلك ان فرنسا وإيران تفاوضتا على هذا الحل في دمشق وبرعاية سورية. التناقض واضح أيضاً في موقف باريس، تشدد غير مسبوق لفرض عقوبات ذات أنياب على إيران وفي الوقت نفسه مفاوضات وجهاً لوجه منتجة في دمشق، لذلك يجب عدم الآخذ كلياً بالتصعيد الدائر في إطار الحرب الباردة، خلف ظلال هذه الحرب ودخانها يمكن ان تجري مفاوضات منتجة، لا أحد يريد الحرب، الجميع يعرف أن كلفتها أكثر من عالية. انها مدمرة.
إسرائيل لن تشن الحرب على إيران حتى لو فشلت عملية فرض عقوبات مشددة عليها. التهديد بالحرب ليس مثل أخذ القرار بالحرب. غياب الضوء الأخضر الأميركي يمنع الحرب. الخوف من تحول أي مواجهة محدودة الى حرب إقليمية شاملة يدفع إسرائيل والآخرين الى حسابات غير محدودة. إسرائيل واثقة بأنها معرضة لخسائر كبيرة وحقيقية، حزب الله يدرك أن الحرب ستدمر لبنان. دمشق تعرف جيداً انها لأول مرة منذ احتلال الجولان تقف في فوهة المدفع. الحرب هذه المرة ستطالها في العمق. فرق كبير بين الحرب على أراضي الآخرين وقراهم والحرب على أرضها وبشعبها. مثل هذه الحرب تتطلب استعدادات شعبية وربما أكثر تفرض نشوء قناعة شعبية تقبل بالتضحية بالأخضر واليابس ثمناً لنتائج محسوبة بدقة تضمن في ما تضمنه سلامة الوطن والشعب واسترداد الأراضي المحتلة.
الغموض السائد وعدم تشكل خريطة الطريق الواضحة للمستقبل، تفرض استمرار الحرب الباردة حتى اشعار آخر، المهم أن لا ينزلق أي طرف تحت أي صيغة ومنها الشعور بالقوة والقدرة على المواجهة والممانعة نحو الحرب الساخنة. لأنها أكثر من مكلفة هذه المرة. انّها مدمّرة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.