الاتفاق النووي الإيراني التركي البرازيلي، قلب الطاولة. لم يكن أحد يتوقع التوصل اليه. رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي والنجم الصاعد في سماء السياسة الدولية، بقي متحفظاً ومتيقظاً حتى اللحظة الأخيرة. لم يتوجه الى طهران، إلا بعد أن تأكد من وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو حصوله على نعم إيرانية كبيرة وحاسمة لا عودة عنها، لا يوجد أحد يفهم العقل الإيراني مثل التركي. بين إيران وتركيا ما صنعه الحداد من التاريخ الطويل المشترك المليء بالأحداث والتجارب المشتركة، اقتضت صناعة المفاجأة الحدث، 18 ساعة من المفاوضات الصعبة والدقيقة. كل كلمة في الاتفاق خضعت للتفاوض. بدا على الإيرانيين الحذر الشديد وحتى القلق من مسألة نقل الاورانيوم الضعيف التخصيب الى الخارج. الأتراك أرادوا وأصرّوا أن يكونوا هم الأرض للتسلم والتسليم، بالنهاية حصلوا على ما أرادوا.
لا شك أن مباحثات إيرانية إيرانية معقدة جرت على هامش المفاوضات التركية البرازيلية الإيرانية. النظام الإيراني معقد جداً. فهو ليس كما يبدو من الخارج، يكفي أن يقال كن فيكون القرار. لعل ما قاله رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني يؤكد على دقة الوضع الإيراني، يبدو أن النقاش الإيراني الإيراني حول الاتفاق باقٍ ومستمر، قال لاريجاني يجب أن تتقارب مواقف الجميع (أي الإيرانيين)، وأن يسلك البلد بصوت واحد هذا الطريق العادل. استمرار التحفظات ما زال قائماً داخل النظام الإيراني. النتائج هي التي ستحسم الموقف باتجاه السير في هذا الطريق العادل أو قلب الصفحة لمصلحة فصل جديد من المواجهة.
مسارعة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون للإعلان عن اتفاق دول مجلس الأمن الخمسة بما فيهما الصين وروسيا على مشروع قرار متشدد، بدت عملية التفافية سريعة على الاتفاق التركي الإيراني البرازيلي. مشروع القرار الذي وافقت عليه موسكو وبكين، متشدد جداً. عملياً إذا ما أقرّ كما هو، فإنه يشكل أول محاولة جدية لتحجيم إيران على الصعيد العسكري التقليدي. القرار لا يكتفي بفرض الحظر على بيع الأسلحة الثقيلة ومن ضمنها الدبابات بل يذهب الى حد منع نقل أي تكنولوجيا ترتبط بهذه الاسلحة. باختصار حتى ولو لم تتم المصادقة على المشروع كما هو، فإنه يشكل أول رسالة دولية جماعية لإيران بضرورة الحد من طموحاتها في منطقة الشرق الأوسط، وأنه لم يحن الوقت وحتى ممنوع عليها بالتوافق بين الدول الخمس الكبرى، أن تكون دولة كبيرة أو متوسطة لها كلمة في صياغة السياسة الإقليمية بدون الرجوع الى المرجعية الأساسية وهي الدول الخمس الكبرى فكيف إذا بكل ما يتعلق بالسياسة الدولية؟!
القوى الكبرى وعلى رأسها واشنطن، تدرك أن مسار صياغة نظام دولي جديد قد انطلق. لا شك أن مثل هذا المسار يقلق هذه الدول لأن النظام المتعدد الأقطاب المفترض تشكله لخلافة النظام الأحادي الذي صيغ على مقاس الولايات المتحدة الأميركية، يبدو وكأنه يتجه بفعل الأحداث والتطورات لكي يتحول الى نظام يكون فيه للجنوب حق الشراكة الى جانب الشمال.
مطالبة الرئيس البرازيلي لولا بانضمام بلاده وتركيا الى مجموعة الدول الخمس زائداً واحداً للتفاوض مع إيران، يغير كثيراً من الأمور والقواعد. البرازيل وتركيا وغيرهما من دول الجنوب مثل جنوب افريقيا وأندونيسيا تشعر بأنها قادرة على أخذ مكان لها في النظام الدولي الجديد. ليس أمراً بسيطاً أن تنفرد تركيا والبرازيل بالتفاوض والتوصل الى اتفاق في المجال النووي وفي منطقة معقدة هي منطقة الشرق الأوسط من دون العودة الى واشنطن وموسكو وبكين ولندن وباريس، التي عملت مجتمعة وفرادى سنوات للتوصل الى اتفاق من دون التوصل اليه.
الرئيس البرازيلي لولا كان قاسياً بالتعامل مع إعلان مشروع العقوبات، قال: ليس الآن وقت تعكير الجو بتوجهات سلبية، بعد هذا التأنيب الديبلوماسي طالب لولا: دعم الاتفاق باسم السلام العالمي. بكلمة أخرى اتركوا للاتفاق فرصة للتنفيذ. إذا أخلت طهران به نقف ضدها، وإن استمريتم بمعارضته تعرضون السلام العالمي للخطر، لأن المواجهة ستكون شاملة ومفتوحة. لا يمكن لواشنطن تحديداً وأوروبا أيضاً تجاهل الرئيس البرازيلي لولا. أميركا اللاتينية لم تعد جمهوريات الموز أصبح لها موقع في العالم مستقل عن قرار واشنطن، أوروبا أيضاً بحاجة لأميركا اللاتينية. لم يجف بعد حبر الاتفاقات الاقتصادية التي وقعت في القمة الأورو-لاتينية، حتى لا تأخذ أوروبا، البرازيل ودول أميركا اللاتينية التي منها دول مثل فنزويلا وغيرها أكثر تشدداً منها في حساباتها السياسية والاقتصادية.
أوروبا وتحديداً فرنسا لم تستطع تجاهل الخطوط الايجابية التي تحققت بالاتفاق. لكن هذه الدول وتحديداً فرنسا تريد أكثر من ذلك. يبدو أن تركيا والبرازيل واعيتان للموقف الأوروبي، ولذلك تبدوان مستعدتين للضغط عليه. لا يمكن لتركيا والبرازيل المخاطرة بمصالحهما الاقتصادية التي تبلغ عشرات المليارات من الدولارات من أجل تصلب أوروبي تدور حوله أسئلة كثيرة أبرزها انعكاس الموقف الإسرائيلي عليه.
مشروع العقوبات، أقلق بلا شك إيران، لأنه يتضمن بنوداً تؤثر كثيراً على يوميات الوضع الإيراني ككل. ليس صحيحاً أن تطبيق هذا المشروع لن يؤذي الشعب الإيراني، لأنه سيجمد حكماً عملية التنقل والسفر ونقل الأموال. ما يقلق طهران أكثر، أن بنوده مطاطة قابلة للتأويل. البند الذي يطالب الدول بعدم منح تراخيص لمصارف إيرانية إذا كانت مرتبطة ببرنامجها النووي يثير مسألة تحديد هذه المصارف وطرق معاملاتها ويجعلها قابلة للبحث من جميع الجوانب. التوجهات السياسية للدول الخمس ستحدد حكماً شروط تنفيذ هذا البند الذي قد يصل إلى حد اعتبار كل المصارف الإيرانية مرتبطة بالبرامج النووي، ما يعني مقاطعة النظام المصرفي الإيراني، ومحاصرة كل واردات إيران وصادراتها وجعلها لا تمر إلا عبر القطارة الدولية.
قد تكون الموافقة الإيرانية على الاتفاق النووي، عملية التفاف بارعة وسريعة على مشروع العقوبات. أدركت طهران أن الموافقة عليه ولو معدلاً يوجه إليها ضربة في الصميم، لا يمكنها تحمل نتائجها مهما علت درجة الممانعة عندها. في جميع الأحوال السؤال الآن ماذا ستفعل بكين وموسكو بعد اعتبار الاتفاق النووي ايجابياً قبل واشنطن ولندن وباريس، هل تستمر في طرح المشروع أم تعليقه؟
المشكلة الآن في آلية تنفيذ الاتفاق بعد قبوله من وكالة الطاقة النووية الدولية. طهران كسبت كثيراً من توقيعها على الاتفاق، حصلت على حلفاء أقوياء وأربكت القوى المعادية لها، وأحرجت قوى تعتبر متفهمة لها وهي بكين وموسكو. لكن في الوقت نفسه قيدت نفسها لم تعد طهران تستطيع التلاعب بالوقت، لم يبق أمامها والمجتمع الدولي كله سوى أسابيع قليلة.
دقّت.. ساعة الحسم!
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.