اسرائيل مأزومة، لكنها ليست مجنونة، رغم كل مظاهر الجنون التي أفرزتها عملية القرصنة البحرية الاسرائيلية أسطول الحرية المدني في المياه الدولية. العنف الاسرائيلي غير المسبوق، في عملية رياح السماء بدا مخططاً ومبرمجاً وحتى معلناً.
قبل ساعات من عملية الانزال الجوي والبحري على السفن المدنية تحدث الجميع عن المواجهة المتوقعة. حتى ان مختلف الأنباء المسرّبة ركزت على محاولة الجيش الاسرائيلي اختيار الظلام، كاتماً لمجريات العملية كلها. لكن منذ فترة طويلة، انتهى زمن العمليات النظيفة التي تنتهي بلا خسائر وبعيداً عن أعين العالم. في عصر المعلوماتية لم تعد توجد أسرار. العالم كله أصبح يرى ويحكم على الأفعال والنتائج، وليس على التصريحات المشبعة بالنوايا الطيبة والمصاغة ببراعة ديبلوماسية محترفة.
العرب ليسوا مدرجين في الحسابات الاسرائيلية. ردود فعلهم لم تعد مهمة، حتى كونهم ظاهرة صوتية لها صدى في العالم، انكتمت. لم تعد الحرب تهز الشوارع العربية. ما جرى في لبنان عام 2006 وفي غزة في عملية الرصاص المسكوب، يؤكد تحول هذه الشوارع الى كهوف من الصمت.
العملية الحربية الاسرائيلية ضد أسطول الحرية موجهة ضد تركيا والولايات المتحدة الأميركية ثم فلسطين والفلسطينيين. لم تعد تتحمل اسرائيل انهيار اسطورتها كدولة متفوقة فوق الشبهات والمحاسبة. في أسبوع واحد تلقت ثلاث ضربات كل واحدة منها تشكل زلزالاً داخلياً، اثاره الارتدادية اقوى مما تبدو على السطح.
[ دعوة مؤتمر مراجعة معاهدة الحد من الانتشار النووي في نيويورك الى قيام منطقة منزوعة السلاح النووي تشمل اسرائيل وايران شكلت مفاجأة كاملة لا تُحتمل، خصوصاً ان الادارة الأوبامية دعمت القرار، مع ان تفاهمات تاريخية وضعت عام 1969 تقضي بأن تجهض واشنطن أي محاولة دولية لإخضاع المنشآت النووية في اسرائيل للرقابة الدولية شرط الا تجري اسرائيل تجارب نووية. الغضب الاسرائيلي وصل الى درجة تعليق سياسي اسرائيلي رفيع المستوى على المفاجأة الأميركية: الأميركيون ذهبوا الى النوم مع الكلاب، وعليهم ألا يفاجأوا اذا أفاقوا مع البق.
[ خسارة الحملة الاعلامية ضد أسطول الحرية وهي خسارة لا تعوض لأنها وقعت في أكبر قلاعها وأهمها. ما زاد من خطورة هذه الخسارة، أن وحدة مكافحة الارهاب رفضت كما يبدو المشاركة في العملية خوفاً من الملاحقات الدولية. اسرائيل تعرف الآن ان خسارة مثل هذه المعركة، تفتح الأبواب أمام المساءلات القضائية الدولية.
[ أن أحد أكبر البنوك الألمانية دويتشا بنك باع حصته في شركة البيت الاسرائيلية، احتجاجاً منه على مشاركة الشركة في بناء منظومات المراقبة الالكترونية للجدار العازل في الضفة الغربية. ما أقدم عليه البنك الألماني سابقة خطيرة لأنه ألماني أولاً، ولأنه يشجع مصارف أخرى على أخذ قرارات مماثلة تنعكس سلباً على كل الاقتصاد الاسرائيلي.
القرصنة الاسرائيلية الدولية، أنتجت إلغاء لقاء القمة بين بنيامين نتنياهو وباراك أوباما. لم يعد يوجد حالياً ما يمكن الحديث بينهما في ظل عملية مثل هذه العملية القاتلة. عزلة اسرائيل تزداد والتطرف الاسرائيلي يتعمّق. مثل هذا التطرّف بحاجة لتطرّف عربي مماثل. الاعتدال العربي يضعف التطرّف الاسرائيلي ويفشل كل دعاويه الكاذبة في العالم. رياح السماء عملية مبرمجة لدفع الفلسطينيين والعرب نحو الرفض والعنف.
لذلك يستمر حصار غزة وتحدي العرب مجتمعين كلما ارتفع منسوب اليأس عند العرب، كلما ارتفع رصيد العنف الأصولي عندهم مما يشكل الباب الواسع لإسرائيل لشرعنة قوتها وتطرّفها وعنفها ورفضها للسلام.
اذا كانت اسرائيل تعتمد في مواجهتها مع الادارة الأوبامية على قوة اللوبي اليهودي واقتراب استحقاق الانتخابات التشريعية النصفية لتقييد ردود الفعل الأميركية، فإن السؤال الآخر الحقيقي هو: لماذا هذه الحرب ضد تركيا؟.
مهما قيل عن العملية الاسرائيلية، فإن الهدف الأساسي منها، هو تركيا. لم تعد تتحمل اسرائيل السياسة الشرقية لتركيا. عودة تركيا الى الشرق من البوابة الفلسطينية يشكل تحولاً استراتيجياً أساسياً في مسارات الشرق الأوسط. كانت اسرائيل وهي تقدم نفسها كدولة محاصرة من العرب، تؤكد على علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا التي تفتح أمامها الطرقات الى أوروبا غرباً، والمحيط الروسي الامبراطوري شمالاً. الآن تشعر اسرائيل وكأن كماشة تضيق الخناق عليها. مهما كان العرب غائبين فإن انضمام تركيا بعد ايران الى الكماشة يخنقها ويحد من قوتها وسطوتها.
اسرائيل أرادت من هذه العملية توجيه رسالة ميدانية لتركيا ان الدخول الى الشرق عبر فلسطين مكلف جداً. على تركيا أن تختار منذ الآن بين اسرائيل وفلسطين. لا حل وسطا في هذه القضية الاستراتيجية والمصيرية. تعمدت اسرائيل أن يكون الانزال العسكري على السفينة التركية الموجودة في المياه الدولية. باختصار تحدّت اسرائيل تركيا مباشرة، عندما ضربت السيادة التركية. ما حصل اختبار ميداني لمعرفة حدود ردة الفعل التركية. حجم الرد التركي سيحدد تعامل اسرائيل مع الأحداث اللاحقة. ما حصل نوع من الاستطلاع بالنار، الذي على احداثياته يتم بناء الاستراتيجية المعتمدة، وبالتالي آلية التكتيكات المناسبة.
يبدو أن أنقرة الحديثة في تعاملها مع اسرائيل من موقع المواجهة لم تقدر جيداً ردود الفعل الاسرائيلية على عملية أسطول الحرية. الأرجح أن طيب رجب أردوغان رئيس الوزراء التركي، فوجئ بـرياح السماء من حيث الحجم والنوعية والنتائج. كان يجب أخذ تنمّر اسرائيل ضد بلاده في حساباته، فيعمل على تأمين حماية علنية ولو اعلامية على الأقل، وتوجيه رسالة تحذير لاسرائيل ضد أي عملية عسكرية بعدما تردد في ارجاء البحر الأبيض المتوسط أنباء عن العملية المتوقعة.
مهما يكن رب ضارّة نافعة. الآن تعرّف الأتراك على الوجه الحقيقي لإسرائيل. مقتل 15 تركياً على يد الجيش الاسرائيلي دخل في الذاكرة الشعبية التركية. من حظ فلسطين والفلسطينيين انه في وقت يغيب فيه العرب عن الحضور تدخل تركيا الى الساحة. الآن يمكن التقدير بأن عودة تركيا الى الشرق، لن تكون عملية موقتة مرتبطة بوجود حزب العدالة والتنمية. الأتراك كلهم معنيون بشهدائهم.
دفعت اسرائيل في عملية القرصنة تركيا نحو الزاوية. لكنها أيضاً أحرجت واشنطن كما لم تحرجها من قبل. تركيا حليفة للأميركيين في أفغانستان وهي ايضاً دولة أطلسية لا يمكن التغافل عن موقعها وأهميتها على الحدود مع روسيا. كلما تعمق الخلاف التركي الاسرائيلي، كلما ازداد الإحراج الأميركي.
يبقى، أن العنف الذي نفذه الجنود الاسرائيليون ضد المدنيين العزّل في قافلة الحرية، يشكل رسالة ميدانية الى حماس وحزب الله معاً حول نوعية العنف والدمار و القتل اذا وقعت أي مواجهة عسكرية مقبلة معهما.
بانتظار أن يستيقظ العرب ويمسكوا قدرهم، مطلوب مزيد من الحذر والحسابات واعتماد سياسة العقل قبل شجاعة الشجعان.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.