لو لم تكن إسرائيل حكومة وشعباً، وليس بنيامين نتنياهو وايهودا باراك وحدهما، مصابة بداء الغرور، لما وقعت قرصنة رياح السماء ضد سفن مدنية في اسطول الحرية وفي قلب المياه الدولية. على الأقل كان أي عاقل حذّر من استتباعات مثل هذه العملية وأشار إلى أنها لن تمر بسلام مهما كانت أضرارها محدودة، فكيف بعد سقوط عشرات الشهداء والجرحى. مهما كذبت إسرائيل على نفسها أولاً، وثانياً على العالم، فإنّ مئات الشهود من عشرات الجنسيات الذين عانوا من لحظات الرعب والخوف، سيروون تفاصيل هذا الغرور القاتل الذي لا يحسب حساباً للرأي العام الدولي مستنداً في ذلك إلى ثقة عمياء بحصانة لم يلحظ انها تفتتت وتتفتت يومياً بفعل الأحداث والممارسات الميدانية.
استطاعت إسرائيل في الساعات الأولى من العملية أن تغش العالم وكأنها تتعرض لاعتداء من اسطول حربي. لكن الوقائع قلبت الموقف، وأحدثت بداية لتسونامي من الأسئلة حول حقيقة الوضع من ذلك: ان الإسرائيليين الذين جنحوا في غالبيتهم نحو التطرف نظروا إلى السفينة التركية المهاجمة وكأنها حاملة طائرات. وما ذلك إلا لأن أي قضية أمنية مهما كانت صغيرة ومحدودة يتم تحويلها إلى تهديد مصيري يجب مواجهته بكل الأسلحة، أكثرمن ذلك، ان بناء بيت في المستوطنات أصبح قضية استراتيجية يتم التعامل معها مثل تهديد خارجي مصيري.
هذا الغرق جاء تدريجياً، لكنه منذ عام، أي غداة تشكيل حكومة التطرف بزعامة الثنائي نتنياهو ليبرمان، ازدادت سرعته، وكانت أبرز نتائجه انعدام العملية السياسية وتراجع العلاقات الحميمة مع واشنطن. فقدت إسرائيل كلها القدرة على قراءة المتغيرات الدولية. أعماها الضعف العربي من جهة والدعم الغربي غير المحدود لها طوال عقود. لم تستوعب إسرائيل اهمية وصول الإدارة الاوبامية إلى واشنطن. أصبح نتنياهو يتحدث علناً قبل زيارته لواشنطن بأنه نجح في ليّ ذراع اوباما. تناسى نتنياهو قاعدة إسرائيلية متفقا عليها: ان إسرائيل هي التي تحتاج الولايات المتحدة الأميركية وليس العكس، وان اللوبي اليهودي، مهما كان قوياً داخل واشنطن، سيكون مجبراً على التراجع عندما توضع المصالح القومية الأميركية في الميزان وفي صلب القرار الذي سيصاغ.
أزمة إسرائيل الحقيقية انها تريد الأرض والسلام في وقت واحد، وأنها أكثر من ذلك تريد دوراً بحجم امبراطورية في الشرق الأوسط لا ينازعها عليه أحد. بعد تغييب العرب عن القرار، خيِّل للإسرائيليين ان منطقة الشرق الأوسط تحولت إلى مساحة مفتوحة أمامها، هي تقرر والآخرون يقبلون مرغمين. بذلك تصبح واشنطن بحاجة لها وليس العكس. كون إسرائيل طارئة على جسم منطقة الشرق الأوسط، جعلها تتناسى وقائع التاريخ ومكونات الجغرافيا. لذلك فوجئت جدياً بإيران القوة الاقليمية الصاعدة، وهي لا تريد ان تصدق حتى الآن ان تركيا عادت إلى الشرق وانها قوة يجب أن يحسب حسابها. مشكلة إسرائيل ان الدور الاحادي الذي كانت تحلم وتعمل له في الشرق الأوسط لن يرى النور. ايران وتركيا لاعبان كبيران، وراءهما تاريخ مصنوع عبر مئات السنوات. أمام هذا الدور التركي والايراني القائم، يبقى الدور العربي احتمالاً موجوداً. عودته يفرضه حق الدفاع المشروع عن النفس، قبل البحث عن اي شيء آخر.
دخول تركيا من بوابة فلسطين، كان له فعل السحر عند العرب. لا يمكن لأي عربي الا ان يرحب بهذا الدور ويدعمه ويشجعه. العرب اليوم بحاجة لأي حليف، فكيف اذا كان بحجم تركيا التاريخية والاسلامية المعتدلة. لا شك ان رجب طيب أردوغان قد دخل كل بيت عربي قبل أن يدخل بيوت الأتراك. العرب بطبعهم عاطفيون ويحبون الزعيم الذي يخرج من قلب قضيتهم فلسطين.
الدور التركي ليس مجرد اضافة الى التطورات، انه فعل محرك للأحداث. هو دور وازن وموزون يعوّض عن انكفاء الأنظمة العربية ويضع حداً لإسرائيل من جهة، ويحمل من جهة أخرى توازناً ايجابياً في وجه ايران كما يؤكد الخبراء في الشأن التركي. لكن هذا الدور محكوم بجملة قواعد، تحدّ من انقلابيته بسرعة غير محسوبة. لذلك كله يجب النظر الى الدور التركي الجديد بواقعية شديدة، حتى لا يصاب أحد، خصوصاً في الشارع العربي والاسلامي، بخيبة أمل تسقطه في مستنقع الاحباط واليأس. تركيا دولة أطلسية مئة بالمئة، لا يمكنها التخلي عن هذا الانتماء لأنه يعطيها حجماً ودوراً لا يمكن تعويضه من الشرق. وهي دولة ذات طموح مشروع للانضمام الى أوروبا، ولذلك لا يمكنها الاصطدام بشروط هذا المسار وقواعده. تركيا وهي تحمل الجمرة الفلسطينية تعرف جيداً حدود تحملها لمستتبعات هذه الجمرة وآثارها. إسرائيل جرحت تركيا في الصميم عندما اعتدت على سيادتها في المياه الدولية، وعندما قتلت مدنيين لا يحملون في ايديهم سوى قضية إنسانية ونبيلة هي فك الحصار عن غزة وعن مليون ونصف إنسان.
أردوغان أنهى فصلاً من العلاقات مع إسرائيل. إسرائيل بالنسبة له دولة ارهابية، دولة عصابات. دولة عدوانية. دولة بلا جذور. لكن أردوغان لن ينضم غداً الى جبهة الممانعة العربية. الصحيح أن دوره كوسيط مع إسرائيل انتهى، وأن دوراً جديداً لبلاده سيتم رسمه منذ الآن، لا بد له أن يتقاطع مع مسارات أخرى. أخطر ما في عملية الرسم هذه، مراودة الأتراك وخصوصاً المؤسسة العسكرية، الشعور بالشك إزاء إسرائيل. عملية القرصنة فتحت عيون الأتراك على مشكلة أخرى. قصف الأكراد لقاعدة بحرية في الاسكندرون، في ظل ما حدث ضد أسطول الحرية، جعلهم يشكون في حقيقة أهداف العملية.
حزب العمال الكردستاني لم يقم بمثل هذه العملية الخطيرة من حيث نوعيتها وموقعها في عزّ المواجهات العسكرية قبل سنوات، لماذا وقعت الآن، وأين هي أيدي إسرائيل من هذه العملية؟ سقوط الثقة بينهما يجعل الأتراك يتساءلون ماذا لو كانت إسرائيل تريد ليّ ذراعنا بواسطة حزب العمال الكردي؟. وماذا لو انها عملت على زرع الفتنة بيننا وبين حلفائنا في سوريا؟. هذه العملية بالنسبة للأتراك مشبوهة مئة بالمئة. لا يمكن لأنقرة سوى أن تأخذها في حساباتها مستقبلاً.
لن تشن تركيا الحرب ضد إسرائيل. لكن كما يبدو ان حرباً قاسية بدأت ضد حكومة بنيامين نتنياهو. أنقرة كما يبدو ستعمل لإقناع واشنطن والعواصم الأوروبية ضرورة العمل لإسقاط حكومة نتنياهو ليبرمان من أجل فتح الطريق نحو العملية السياسية التي تنقذ المنطقة من الأخطار المحسوبة والطارئة.
لا شك أن تركيا بحاجة للمساندة والدعم والقليل من المبالغات العربية الاتكالية، لانه في النهاية مهما كان الدور التركي عظيماً: لا يحكّ جلدك مثل ظفرك.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.