لا يمكن لطهران، مهما بلغت من التشدّد في كل ما يتعلق بملفها النووي، إلا أن تأخذ في الاعتبار حركة مسارين يتقاطعان بشكل أو بآخر في محطات عديدة.
*الأول: العلاقات مع تركيا واستكمالاً لها كل ما يتعلق بالملف النووي مع البرازيل. أصبح لأنقرة وبرازيليا كلمة بكل ما يتعلق بتطورات هذا الملف المعقّد، على طهران أن تحسب حساب موقع الحليفين الوسيطين ومصالحهما مع واشنطن والاتحاد الأوروبي.
*الثاني: قرارات العقوبات المتوالية وانعكاسات تنفيذها على الاقتصاد الإيراني وعلى حركة مسؤوليها. حالياً توجد ثلاث درجات من العقوبات. الأولى الصادرة عن مجلس الأمن والتي قمتها القرار 1929، الذي يضع عملياً فاصلة حقيقية باتجاه الانزلاق نحو المادة السابعة المتعلقة بالإرهاب والتي لا يريد أحد حتى الآن الوصول إليها. والثانية الصادرة عن الولايات المتحدة الأميركية والتي أقرّها الكونغرس الأميركي. والثالثة التي اعلن الاتحاد الأوروبي عنها، وهي الأشد والأقسى حتى الآن.
من الواضح انّ الهدف من هذه العقوبات المتدرّجة في قساوتها وشدّتها منع إيران من الحصول على استثمارات ومساعدات فنّية في قطاعي النفط والغاز. والأهم رفع منسوب القيود والعقوبات ضدّ الشركات المصرفية والنقل من ناقلات النفط العملاقة في كل ما يتعلق بما يُطلق عليه حرب البنزين. الهدف من هذه الحرب، رفع درجة المعاناة اليومية لدى الإيرانيين في كل ما يتعلق بالتنقل والنقل الداخلي، لكي تصب هذه المعاناة في طاحونة المعارضة للنظام. شركة توتال الفرنسية ذات الطموحات العملاقة للعمل في إيران في قطاع النفط والغاز اضطرت تحت مقصلة العقوبات الأخيرة إلى التوقف عن إمداد إيران بالبنزين. كما أنّ جمعيات رئيسية للنقل البحري أدرجت في عقودها نصوصاً تمنح مالكي السفن حق رفض نقل المنتجات النفطية المكرّرة إلى إيران.
النظام الإيراني يدرك ويقول ذلك علانية انّ الهدف من كل هذه العقوبات العمل على تأزيم الوضع الداخلي بحيث تتحوّل الانتفاضة الخضراء إلى انتفاضة شاملة تضم كل شرائح المجتمع الإيراني وطبقاته، والأهم أن ينضم البازار بشكل فعلي ونهائي إلى المعارضة. أما الهدف الثاني والأهم فهو: دفع النظام للذهاب إلى طاولة المفاوضات.
الغريب في كل ذلك انّ النظام الإيراني الذي يعرف قواعد الاشتباك وحدود مقاومته، لكنه فعلياً وعملياً ومن منطلق الواقعية السياسية لا يريد تفويت فرصة العثور على ثغرة ينفذ عبرها من هذا الوضع الدقيق والصعب. الدليلُ، أن منوشهر متكي وزير الخارجية الايراني، بذل جهوداً سياسية وديبلوماسية لتحويل اللقاء الثنائي بين وزيري الخارجية التركي داوود أوغلو والبرازيلي سيلو أموريم إلى لقاء ثلاثي. أنقرة قَبِلَتْ الطلب الايراني فانضم متكي إليهما لكنها اشترطت، انّ اللقاء ليس مبادرة جديدة، وأن تكون طهران مستعدة للاجتماع مع الغرب.
أنقرة نجحت في مساعيها، طهران قَبِلَت العودة الى المفاوضات بدون شروط. المفترض انّ المفاوضات ستبدأ في منتصف أيلول القادم أي بعد عيد رمضان، في أنقرة أو فيينا، وهي ستكون بين متكي نفسه ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون. قد يسبق هذا اللقاء اجتماع عمل بين اشتون نفسها وكبير المفاوضين الايرانيين سعيد جليلي. طهران تعمل على استباق التنفيذ الفعلي للعقوبات.
لا يمكن أن تنجح أي مفاوضات بين طرفين دون تقديم تنازلات مؤلمة متبادلة. السؤال الكبير هل ستكون طهران ناضجة في تلك المرحلة لتقديم التنازلات المطلوبة منها، وماذا ستطلب مقابلها، لأن على الطرف الآخر تقديم عروض مقبولة تتجاوز تخفيف العقوبات.
أمام الجميع نحو سبعة إلى ثمانية أسابيع من الوقت الضائع. لكن هذه الأسابيع لن تكون جامدة ومستقرة. المفروض انّ كل طرف من الطرفين سيعمل على تصعيد موقفه ومقاومته، لإجبار خصمه على تقديم أكبر قدر من التنازلات. مفاعيل العقوبات لن تظهر على الأرض مباشرة، لكن آلية التنفيذ الموضوعة ستؤشر على المستقبل.
في مواجهة ذلك، سترفع طهران من وتيرة مواجهتها لتجعلها مرتبة وملموسة ميدانياً. ستعمل طهران على تثبيت حضورها القوي والكبير في كل الدوائر التي يمكنها التحرّك فيها. العراق حالياً هو ساحة المواجهة والضغوط المتبادلة، لذلك سيعيش العراق مرحلة من التصعيد الأمني والسياسي، في وقت يسود فيه الفراغ. لا حكومة مشكّلة ولا برلمان ناشط. كل الوضع في الداخل معلّق على التوافقات في الخارج.
طهران تبدو مطمئنة وهي ترفع سقف المواجهة في مختلف الدوائر القادرة على التحرك فيها إلا أن خيار الحرب كما تدعو إليه بعض القوى وإسرائيل واللوبيات الأميركية هو خيار حرب نفسية لا أكثر ولا أقل. ما يطمئن طهران أكثر فأكثر انّ موسكو المعارضة علناً لدخولها إلى نادي الدول النووية تسرّب سيناريوات كارثية لأي حرب ضدها. موسكو تبدو مطمئنة وواثقة بأنها المستفيدة الكبرى من حرب العقوبات من جهة ومن أي حرب عسكرية قد تقع.
في موسكو يقولون انّ أي ضربة عسكرية ضدّ إيران هي خطأ رهيب، ويذهبون في السيناريو الكارثي الذي يرونه إلى درجة:
[ ان طهران قد تشن عمليات داخل الولايات المتحدة الأميركية لإثارة الرعب ضمن حرب نفسية مفتوحة.
[ ستقوم طهران بتوجيه ضربة مباشرة إلى الاسطول السادس في حوض البحر الأبيض المتوسط إلى جانب قواعده في منطقة الشرق الأوسط خصوصاً في الدول المحيطة بها والقريبة منها.
أما الناتج المباشر لمثل هذه الحرب بعيداً عن إعادة إيران إلى عصر الفحم الحجري، حصول:
[ ركود اقتصادي عالمي.
[ إضعاف الدولار، بكل ما يعني ذلك من إرباكات دولية.
[ اضطرار فرنسا والمانيا للتوقف عن دعم الحلقات الضعيفة في منطقة اليورو مما قد يؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي أو انهياره.
لا يمكن تأكيد أو نفي صحة هذا السيناريو، خصوصاً وأن تجاذباً واضحاً في المواقف الروسية أصبح علنياً. مهاجمة طهران للرئيس الروسي ميدفيديف، هو محاولة علنية لتحييد فلاديمير بوتين رئيس الوزراء والقول بأنه يوجد موقفان روسيان وليس موقفاً واحداً.
في النهاية، الأهم ليس مَن يربح المعارك، إنما مَن يربح الحرب!
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.