اعترف نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الحالي بسبب استمرار الأزمة أنه جزء من هذه الأزمة، لكنه لا يرى غيره قادراً على إدارة العراق. أيضاً صدام حسين كان لا يرى في غير شخصه قائداً قادراً على زعامة العراق وحكمه وإدارته، حتى وقع العراق تحت الاحتلال وضاع لسنوات طويلة، خسر فيها شبابه بمئات الآلاف وأمواله بمئات المليارات. الأزمة في العراق مرشحة للتمديد إلى ما بعد رمضان، بذلك تستمر الأزمات في منطقة الشرق الأوسط تتقلب على نار التمديد العراقي. حل الأزمة المعضلة في العراق يعني إما أنّ أحد الأطراف الخارجية قد تغلب على الآخرين، أو أنه حصل وفاق واتفاق بين جهتين أساسيتين. في الحالتين سينعكس الانتصار أو الاتفاق على باقي الأزمات. لا شك ان الطرفين الأساسيين في الأزمة هما: الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران. القوى الأخرى: تركيا وسوريا والسعودية، مهمة بلا شك؛ إتفاقها مؤثر، لكنه ليس حاسماً.
يومياً، تشهد الأزمة العراقية تصعيداً يؤكد لبننة النظام في أصغر تفاصيله. حتى النكنكات الصغيرة تنهمر على الحياة السياسية. طبيعي جداً حصول المناورات من أجل تشكيل تحالفات معينة أو كسب نقاط إضافية في مباراة الرابح فيها سيكون بالنقاط وليس بالضربة القاضية. المالكي حقق اختراقاً على الجبهة الكردية فجرى بعد لقائه مع مسعود البرزاني رفع الفيتو عنه. طبعاً لم يعرف بعد مدى جدّية هذا القرار أولاً، وثانياً ماذا قدم المالكي من وعود والتزامات جديدة للبرزاني، سواء بالنسبة لمنطقة كردستان العراقية أو لاحقاً في تركيبة الحكومة ومقاعدها، في حال حصل مرة جديدة على رئاسة الوزراء. ما قاله عادل عبدالمهدي نائب الرئيس العراقي، حقيقي مئة بالمئة. ان ترشيح المالكي اليوم يتمتع بدعم أجنبي واقليمي من دول معينة في حين ترفضه أخرى.. ان الحركة السياسية لا تعيش ظروف الخمسينيات حيث كان يعتبر الجلوس مع أجنبي مؤامرة وخيانة. أيضاً الزمن ليس زمن صدام حسين وقبله أحمد حسن البكر وعبدالكريم قاسم حيث كان الوزراء يعلمون بمواقعهم وهم في منازلهم. المناورات كانت ممنوعة. القائد هو الذي يقرب أو يبعد، يرفع أو يعدم.
هذا الوضع للحركة السياسية في العراق يدفع للسؤال: ماذا عن عراق الغد، كيف يراه السياسيون الذين يتكلمون كثيراً عن السلطة ولكنهم لا يرسمون أمام العراقيين خارطة للعراق الجديد سواء غداً أو بعد سنوات، خصوصاً وأن ساعة الانسحاب العسكري الأميركي قد دقت!
الانسحاب العسكري الأميركي ينهي حكماً حالة الانتداب الذي يعيش العراق وطأته منذ العام 2003. لكن انتهاء الانتداب الأميركي على العراق، لا يعني مطلقاً نهاية الحقبة الأميركية. للأسف ستبقى قوات أميركية في العراق. السؤال الكبير هو حول مستقبل التعامل معها. الإدارة الأميركية الحالية أو اللاحقة بعد سنوات يهمها ضمان أمن وسلامة جنودها، الباقي بالنسبة لها تفاصيل، كل ما يخدم هذا الهدف الأول، جيد وتنفيذه واجب وضروري. من ذلك ان أي حل يستبعد السنّة ويرميهم من جديد في أحضان القاعدة ويعيدهم إلى الحالة الزرقاوية نتيجة لليأس والإحباط، خطير وخطر على القوات الأميركية الباقية. الأميركيون يريدون أن يكون بقاء قواتهم في العراق على مثال التواجد العسكري الأميركي في اليابان، مرئياً ولكنه بدون احتكاك يومي. الاحتكاكات هي التي تولد المعارضة كما يحدث في جزيرة أوكيناوا من وقت الى آخر. باختصار أن تكون هذه القوات قوات صديقة، موجودة بفعل اتفاقات ومعاهدات ثنائية.
الرغبة الأميركية هذه تفرض على رئيس الحكومة المقبل أن يكون متفهماً ومتفاهماً معها. حتى هذا لا يكفي. التفاهم العراقي الأميركي في العراق القادم مهم جداً، لكن دون أن يكتمل بالتفاهم مع جيرانه، لا فائدة منه. من هنا للأميركيين مصلحة أساسية في المساهمة بترتيب هذه التفاهمات أو على الأقل بالتوصل اليها. حول تشكيل هذا المستقبل يرسم حكيم من آل الحكيم خريطة طريق أولية لكنها واضحة بكل ما يتعلق بنهاياتها فيرى:
أن العراق ليس جزيرة، بل هو القلب من المنطقة. لا يمكن لعراق ما بعد صدام حسين أن ينفذ سياسة مشابهة ولو واحد بالمئة من سياسة صدام لأن في ذلك مشكلة من ألف مشكلة. من الطبيعي والضروري إعادة ترتيب علاقات العراق مع جيرانه وهم: إيران وتركيا وسوريا والأردن والسعودية والكويت. القاعدة الأولى لهذا العراق الجديد أن يصبح عنصر اطمئنان في المنطقة لأنه أخاف كثيراً ويخيف أكثر. على أي نظام قادم في العراق أن يأخذ بعين الاعتبار أحكام وقواعد الجغرافية التي تحيط به. العراق رغم مساحته وغناه ليس له سوى منفذ بحري ضيق وضحل، مما يخفف من إطلالته على الخارج وانطلاقه خارج حدوده. يفرض هذا عليه حكماً إقامة علاقات مع الدول المطلة على البحر مثل الكويت وإيران. وهو مضطر للتعاون الكامل مع سوريا وتركيا لانهما يمسكان بشريان الحياة أي الفرات. في لحظة معينة لا يستطيع العراق سوى أن يقول لهما خذا النفط ولا تضيقا علينا بالماء. سعر ليتر الماء عالمياً اليوم أغلى من ليتر البنزين، فكيف بالنفط الخام. أما الأردن فإنه بوابة لا غنى عنها للعراق الى الخارج في كل الحالات الى جانب التداخل الاجتماعي.
العراق قادر على طمأنة الجميع حوله كما فعلت اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية اليابان قالت للأميركيين وللصين وكوريا الجنوبية: لنا اليابان ولكم البحر وما وراءه. المانيا أيضاً طمأنت فرنسا وباقي جاراتها الأوروبيات. قامت المانيا وأصبحت اليوم محركاً أول للاتحاد الأوروبي. العراق أيضاً قادر على مصالحة الجميع بعد أن يتصالح مع نفسه ويتحول حتى الى محرك لمشروع ضخم يضم دول المنطقة.
العنصر الثاني والمهم وهو داخلي، هو كيفية بناء الأمة سياسياً وثقافياً وإنسانياً. يجب قيام نظام لا يخضع لعاطفة الناس وانما للعقل وللغة المصالح من استراتيجية وطارئة. ما لم يتم ذلك ستتعمق لبننة النظام، بحيث يمر العراق كل عدة سنوات في اختبار ناري يطال وحدته الداخلية وسلمه الأهلي من جهة وعلاقاته مع محيطه الجغرافي.
حالياً سكين اللبننة تعمق الجرح العراقي. الأمثلة كثيرة. من ذلك أن رئاسة الوزراء للشيعة اضافة لوزارات المالية والداخلية والنفط. لكن أيضاً جرى ترتيب لبننة الوزارات فالمخابرات للسنة ورئاسة الأركان للأكراد، اما وزارة الدفاع فهي للسنة لكن القائد العام هو رئيس الوزراء الشيعي. الأمثلة تكاد لا تنتهي حول تقاسم السلطة مذهبياً كما في لبنان.
العراق قلب المنطقة لا يمكن أن يكون محرّكاً إذا لم يخرج لاحقاً من اللبننة. يكفي لبنان!
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.