تموز 2011. لا يعود السودان موجوداً. في ذلك اليوم، ستقوم دولة جديدة في الجنوب لها حدودها وعلمها وجيشها. زعماؤها محتارون فقط حول اسمها، هل يكون دولة جنوب السودان، فيبقى اسم السودان قائماً بعيداً عما سيسمي أهل السودان سودانهم، أم يكون مثلاً دولة النيل. قبل هذا اليوم الموعود، وتحديداً في مطلع كانون الثاني من العام 2011 سيجري استفتاء شعبي في جنوب السودان تحت إشراف دولي لتقرير المصير. التوقعات كلها تشير الى أن 98 في المئة من الجنوبيين سيصوتون الى جانب الانفصال. نجحت الحرب الأهلية الأطول في افريقيا وربما العالم في تمزيق السودانيين، وجاء نظام العسكر بزعامة عمر البشير الذي استبدل القبعة العسكرية بالعمامة فكراً وممارسة، فأكمل المهمة. توقيع اتفاق نيفاشا عام 2005 بين حكومة الخرطوم وجيش الحركة الشعبية الذي كان يقوده الكولونيل الراحل جون غارانغ، جاء بداية طبيعية وملزمة لهذه النهاية.
سواء كان السودان دولة مهمة ذات شأن وحضور ومستقبل، أو دولة لا تعني الكثير، فإن كونها دولة عربية عضواً في جامعة الدول العربية، يعني أن كل ما يمسها أو يعنيها يمس الدول الأعضاء في الجامعة حتى لا يُقال أكثر من ذلك يعني الأمة العربية. لذلك فإن رؤية السودان ممزقاً بين دولتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب من جهة، وإمكانية أن يقع انفصال ثانٍ في الشمال بين الخرطوم واقليم دارفور، فإن كل ذلك يشكل كارثة تجمع بين الزلزال والتسونامي معاً. المضحك المبكي في كل ذلك أن لا أحد من العرب يشعر بالحزن ولا حتى بالأخطار المحدقة بهم.
من دون مبالغة فإن انفصال الجنوب عن الشمال السوداني وتشكيله دولة جديدة، وربما دولة ثالثة أخرى عاجلاً أم آجلاً، سيدخل كل بيت عربي لأنه يحمل معه بذوراً انفصالية وحروباً أهلية واسعة في كل القسم الافريقي من العالم العربي، أي من مصر الى موريتانيا. من شجع وحمى وغذّى واحتضن انفصال الجنوب سيعمل بعد نجاحه على التجربة في أكثر من منطقة ودولة أرضها مزروعة بالألغام منذ سنوات طويلة.
واشنطن الرسمية وكنيستها المتشددة دعمتا الانفصال بقوة. يعترف الأميركيون رسمياً بأنهم يدفعون مليار دولار سنوياً لبناء جيش للدولة الموعودة (موقع Taqurir الأميركي). وذلك منذ العام 2005. أما عن المساعدات غير الرسمية التي تلقتها حركة الجيش الشعبي طوال عقود لتصمد وتفرض موقفها فإنه سيبقى سراً حتى إشعار آخر. واشنطن مهتمة جداً بنشوء هذه الدولة لأن مأساة الجنوبيين دفعتهم الى هذا الموقف. طبعاً هذا الموقف ليس أكثر من كذبة كبيرة لا تخدع أحداً. الواقع أن جنوب السودان يمسك بمفاتيح ثلاث دوائر متداخلة تعني واشنطن أولاً وتل أبيب ثانياً:
* أولاً: ينتج جنوب السودان حالياً 490 ألف برميل نفط يومياً. في المستقبل سيتم رفع هذا الانتاج، عبر الاستقرار والاستثمارات. ربما أهم من ذلك أن باطن أرض الجنوب يحتوي على مناجم كبيرة من المعادن غير المستثمرة. شركات أميركية ضخمة تشتري منذ فترة أراضي شاسعة في المنطقة. سفير جنوب السودان في واشنطن ايزاكيل لول جانكوث يقول إنه سيتم تأجير هذه الأراضي مستقبلاً. أين الحقيقة. لا شك أن الشركات الأميركية الكبرى تملك الحقيقة.
* ثانياً: ترغب السلطات الجنوبية تسمية دولتهم في 11 تموز 2011 دولة النيل. يقول سفيرها في واشنطن إنهم يأخذون حساسية مصر من هذه التسمية في الاعتبار. لا شيء يؤكد صحة ذلك، يبدو أن الجنوبيين تعلموا أن يعدوا كثيراً وأن يتركوا للوقت تفتيت وعودهم وجعلها غير قابلة للتنفيذ. المهم أن الدولة المقبلة، ستضع يدها نهائياً مع باقي دول حوض النيل الافريقية على مياه النيل شريان الحياة لمصر. سبق للقاهرة والخرطوم أن رفضتا التوقيع على اتفاقية إطار عمل جديد تتعلق بالنيل واقتسام مياهه. سفير الجنوبيين في واشنطن يعد ببحث الوضع بعد الاستفتاء. الوعود البراقة لا تقنع أحداً. لا شك أن الدولة المقبلة سيكون لديها ما تقايض عليه مصر من موقع القوة. الأرجح أن الدولة الجديدة ستطلب تدخل مصر لدى الخرطوم لمعاونتها في الاستقرار وعدم دعم المتمردين الجدد ضدها. كل شيء معقول وقابل للتفاوض، خصوصاً عندما يقول سفير الدولة الموعودة: من المهم لمصر أن تدرك أن الحقوق المتساوية للجميع في كل المجالات وليس في مياه النيل فقط.
* باسم دعم الكنيسة سيتم انتقال الحملة الى دول افريقية أخرى. القس المتشدد فرانكلين غراهام يشحذ سكاكينه منذ الآن يقول إنه توجد حرب مشتعلة ضد كنيسة المسيح في افريقيا. ستقع حروب كثيرة مقبلة. الافريقيون هم أول الضحايا لهذه الحرب وغيرها. لو لم تقسم أثيوبيا وتقوم آرتيريا لما كان ممكناً تقسيم السودان. بعد تموز 2011، ستتم إعادة تفكيك وتقسيم دول افريقية عديدة على أسس وقواعد جديدة مع مراعاة مصالح الدول العظمى المقبلة وفي مقدمتها الصين.
يبقى ما يعني كل العرب، وليس مصر وحدها وهو علاقات الدولة المقبلة مع إسرائيل. سفير الجنوب في واشنطن ايزاكيل لول جانكوث يدعو في مقابلة (مع موقع Taqurir الأميركي) العرب وفي مقدمتهم مصر لأن يكونوا واقعيين وأن يتعاملوا مع الواقع الجديد لاحقاً، مضيفاً لن نكون ملكيين أكثر من الملك. نعم سنقيم علاقات مع إسرائيل. هناك علاقات ديبلوماسية لعدد من الدول العربية معها. إسرائيل نشطت طوال ثلاثة عقود وأكثر في افريقيا. شنت حرباً ناعمة ضد اللبنانيين في افريقيا. حالياً تمسك بالمفاصل الأساسية للدوائر الجغرافية والسياسية الافريقية. وجودها في جنوب السودان يحقق حلمها بالإمساك بالنيل نهائياً. مصر غابت عن افريقيا. اليوم وغداً ستدفع الثمن غالياً من أمنها الغذائي والاستراتيجي. السلام البارد مع إسرائيل لم يعطِ مصر أكثر من الهدوء على جبهة واحدة، عليها منذ الآن أن تتعامل مع جبهات عدة مفتوحة ضدها. لكل شيء ثمنه. المشكلة أن العائدات التي حصلت عليها مصر مرحلياً لا تعادل شيئاً أمام التكلفة المستقبلية.
أمام السودان والرئيس عمر البشير مرحلة انتقالية لمدة خمسة أشهر. قد لا يمر هذا الوقت وكأنه وقت ضائع. يمكن اللعب خلاله كثيراً. في الجنوب ألف لغم ولغم. المتمردون على النظام المقبل يتكاثرون. كل أمير حرب لم يُحسب له حساب، أو لم يأخذ ما يحلم به يستطيع تفجير حرب صغيرة تساهم في عرقلة ما سيتم. أيضاً يمكن إشعال حرب بين الأقلية من المسيحيين وهم عشرة في المئة والأغلبية الوثنية.
المشكلة أن خيارات عمر البشير ونظامه تضيق جداً. فهو مُلزم بتنفيذ ما وقع عليه عام 2005. ثم أليس الأجدى له ولنظامه الالتفات نحو اقليم دارفور حتى لا ينفصل تحت شعار أنهم مسلمون أفارقة وليسوا عرباً.
يبقى أيضاً، إذا كان العرب لا يستطيعون أو لا يرغبون عقد قمة عربية لبحث كيفية التعامل مع هذا التحول الكبير، على الأقل فلتعمل جامعة الدول العربية وهي في القاهرة على دراسة الوضع من كل جوانبه والتعامل معه مستقبلاً بجدية وواقعية تأخذ في الاعتبار كل الأخطار المقبلة.
انتهى السودان. 11 تموز 2011 سيكون سودانان. شكراً عمر البشير.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.