العلاقات الأميركية الإسرائيلية، قوية ومتينة، لكنها ليست ممتازة ومميزة كما كانت طوال عقود ماضية. لن تنقلب واشنطن على إسرائيل، ولن تصل العلاقات الأميركية الإسرائيلية إلى حالة من الفتور والبرود. ما صنعه التاريخ، لا يغيّره موقف واحد أو خلافات معيّنة. ستبقى إسرائيل الحليفة المدلّلة للولايات المتحدة الأميركية، لكن على هذا الحليف أن لا يستمر في لعب لعبة الولد الوحيد والمدلّل الذي يحصل على كل ما يريد بمجرّد أن يطلب أو يتباكى. دخلت العلاقات بين واشنطن وتل أبيب مرحلة جديدة تقوم على واجبات متبادلة ومصالح يجب أخذها في الاعتبار من الجانبين. المصالح القومية تفرض صيغة التبادلية في التعامل. أيضاً وهو الأهم، ان القرار النهائي بكل ما يعني المصالح القومية والاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية لا شريك فيه.
الرئيس الأميركي اوباما جاء باسم التغيير، وقد عمل وحاول بجدّية كبيرة على تنفيذ سياسة التغيير داخلياً وخارجياً. نجح اوباما وفشل. في الأساس لا يستطيع رئيس الولايات المتحدة الأميركية مهما بلغت قوّته وشعبيته القفز فوق المؤسسات، يكون الرئيس ابن هذه المؤسسات أو لا يكون. بالنسبة للشرق الأوسط وهو المهم هنا، أحدث اوباما تغييراً في الخطاب الأميركي. ما فعله أسنده إلى المصالح القومية الأميركية وخدمتها والحفاظ عليها. الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعنف المتوالد عنه أو باسمه في جميع أنحاء العالم أجبر الإدارة الاوبامية على الدخول في مسار جديد يعمل على حل هذا الصراع والتوصل إلى اتفاق شامل قائم على دولة للفلسطينيين مقابل الأمن والاستقرار لإسرائيل.
لم يقفز اوباما إلى هذا المسار من الفراغ. لم يقد اوباما انقلاباً في السياسة الأميركية، كل ما فعله انه بلور نهجاً في التعامل مع أزمات منطقة الشرق الأوسط. الحرب في العراق من جهة والحرب ضدّ الإرهاب من جهة أخرى سرّعتا في هذه السياسة الاوبامية. الواقعية السياسية لعبت دوراً أساسياً في كل ما حصل ويحصل. وهذه الواقعية مستندة إلى قرارات ومواقف سابقة للإدارات الأميركية ومنها بدون ترتيب زمني:
*عام 1956 طلب الرئيس ايزنهاور من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل الانسحاب من الأراضي المصرية. وتم تنفيذ طلبه. لم يفعل ايزنهاور الذي كان يملك شرعية تاريخية وسياسية ذلك من أجل مصر ولا من أجل جمال عبدالناصر ولا انتصاراً لدولة من العالم الثالث في مواجهة هذه الترويكا. المصالح القومية الأميركية دفعته إلى هذه المواجهة. أراد ايزنهاور التعجيل في عملية وراثة الولايات المتحدة الأميركية لكل من فرنسا وبريطانيا. كان يجب أن يتقدم العالم الجديد ليحل مكان العالم القديم، وقد حصل ذلك بسرعة ملحوظة.
[ أيلول عام 1991 أقنع الرئيس جورج بوش الأب الكونغرس تجميد ضمانات القروض لإسرائيل، وقد حصل طوال سنوات أن خفضت واشنطن الضمانات بما يوازي مليار وثلاثمائة مليون دولار من هذه الضمانات أي ما يعادل ما كانت إسرائيل تنفقه على المستوطنات. سبق هذا القرار تهديدات أميركية صادرة عن إدارتين بتجميد شحنات الاسلحة لإسرائيل، وقد رضخت تل أبيب لمطالب واشنطن آنذاك.
[ منذ حرب 1967 حتى الآن لم يحصل أن اتفقت أي إدارة أميركية مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حول ثلاث قضايا تشكل جوهر النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وهي: الحدود والقدس واللاجئين إلى حد معين.
[ فاجأت الإدارات الأميركية إسرائيل مراراً بقرارات أساسية تعنيها ومنها: مشروع روجرز عام 1969، والاتفاق مع الاتحاد السوفياتي عام 1977 بشأن الاقتراحات لحل النزاع العربي الإسرائيلي وخطة ريغان الأولى عام 1982، وبداية الحوار مع حركة فتح عام 1988 في تونس.
أما في عهد الإدارة الاوبامية فإنّ التطوّر الأبرز هو القناعة القائمة حالياً في قلب المؤسسة العسكرية الأميركية التي تخوض ثلاثة حروب دفعة واحدة وهي الحرب ضدّ الإرهاب وافغانستان والعراق رغم انسحاب القوات القتالية. حول السلام في منطقة الشرق الأوسط في 16 آذار من العام الجاري قال الجنرال بترايوس في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ ان التقدم نحو السلام الشامل في الشرق الأوسط لا يجري بصورة كافية، كما ان حالة العداء المستمرة بين إسرائيل وبعض الدول المجاورة باتت تشكل تهديداً واضحاً لقدرتنا على الدفاع عن مصالحنا في المناطق التابعة لمسؤوليتنا. ان التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين يتطور أحياناً كثيرة إلى أعمال عنف ومواجهات مسلحة على نطاق واسع. كما يساهم هذا النزاع في زيادة العداء لأميركا في ظل النظرة السائدة بأن الولايات المتحدة داعمة لإسرائيل، في الوقت عينه تقوم القاعدة والتنظيمات الجهادية باستغلال هذا الغضب من أجل جمع التأييد لها، بالاضافة إلى ذلك يساهم هذا النزاع في تعزيز النفوذ الايراني في العالم العربي بواسطة حزب الله وحركة حماس.
حالياً تختلف إسرائيل مع واشنطن حول الملف النووي الايراني، وكل ما يتعلق بطبيعة ومستقبل النظام العربي، وحتى في تقليص الوجود العسكري الأميركي في العراق. وتخشى إسرائيل فعلاً وليس للتهويل من مسألة توجه واشنطن نحو الالتزام بشرق أوسط خال من الأسلحة النووية بدلاً من منع الإيرانيين من الحصول على القوة النووية. أكثر ما أثار مخاوف تل أبيب أن هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية التي تعتبر من المتشددين داخل الإدارة الاوبامية قالت في 3 أيار من هذا العام: نريد التشديد على التزامنا بقيام شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل، ونحن مستعدون لدعم كل الخطوات العملية التي تساعد في تحقيق هذا الهدف.
الطلاق لن يقع بين واشنطن وتل أبيب اليوم ولا غداً. لكن على الأقل يمكن للعرب وهم عاجزون عن الطلب وليس فرض ما يريدون، النفاذ من ثغرة الخلافات لتحسين الوضع لمصلحة قضاياهم. التنسيق العربي مع الإدارة الأميركية أصبح ضرورة خصوصاً ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بعيداً عن خطابات الرفض والممانعة والالتفافية. حان الوقت عربياً للتعامل مع واشنطن بواقعية سياسية دون السقوط في فخ خطابات التخاذل والتراجع والتخوين، خصوصاً وان هذه الخطابات لم تنتج سوى مزيد من العجز عن اتخاذ أي قرار. الصمود بلا تصدّ يشكل في كثير من الحالات نوعاً من الانتحار السياسي، فهل يوجد حالياً في العالم العربي مَن هو قادر على الصمود والتصدي في وقت واحد؟
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.