المفاوضات أنواع. منها ما هو مباشر ومنها ما هو غير مباشر عبر وسيط يحوز على ثقة الطرفين، ومنها ما هي جدية تهدف للتوصل الى اتفاقات معينة مهما طالت مدتها، ومنها ما هي لتقطيع الوقت الضائع أو حتى لذرّ الرماد في العيون. منطقة الشرق الأوسط، تشهد وتعيش على وقع كل هذه الأنواع من المفاوضات، حتى يصعب أحياناً التفرقة فعلياً بينها والتحديد بدقة حجم جديتها، تحضيراً للتعامل الواقعي أو الجنوني مع نتائجها.
الجهود الأوبامية لفتح ثغرة واحدة في جدار المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية لم تنجح. إسرائيل أصرت على متابعة بناء مستعمراتها الاستيطانية، والرئيس محمود عباس لم يجد عذراً واحداً لمتابعة ما بدأه. الإسرائيليون وضعوا عباس واعتداله أمام الحائط. الإدارة الأوبامية لم تيأس بعد. عودة جورج ميتشل الى إسرائيل ورام الله تؤكد ذلك. لن يحقق ميتشل أي تقدم. عندما يقف افيغدور ليبرمان في الأمم المتحدة ويطالب بمفاوضات تدوم عدة عقود، يعني غياب الأمل بالتوصل الى أي حل. الرئيس السابق بيل كلينتون التقط ما يحصل، عندما ألقى المسؤولية على عاتق المهاجرين الروس، وهو الذي لعب دوراً أساسياً في فتح أبواب روسيا أمامهم للقدوم. تصلب اليهود الروس يتجسد بليبرمان وحزبه. لكن هذا لا يكفي لتفسير كل شيء. انزلاق الإسرائيليين نحو مستنقع التطرف اليميني، أصبح ثابتاً. المجتمع الإسرائيلي لم يعد يعنيه السلام مقابل الأرض. ضعف العرب، وتشتت الفلسطينيين يشجعانه على ذلك. انفصال غزة عن الضفة بأيدٍ فلسطينية طمأنه أكثر الى خياراته. ما لم يحدث زلزال حقيقي لن يستعيد المجتمع الإسرائيلي وعيه.
قطار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، سيتوقف حالياً. بنيامين نتنياهو وشريكه ليبرمان ينتظران نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة الأميركية. فشل أوباما والحزب الديموقراطي يقويهما. الإدارة الأوبامية ستكون ضعيفة في مواجهة كونغرس يسيطر عليه الجمهوريون. أكثر من ذلك، أوباما قد يستجدي اللوبي اليهودي تحضيراً للانتخابات الرئاسية. المقايضة ستكون عظيمة ولمصلحة التطرف الإسرائيلي. لكن رغم كل هذه الصورة السوداوية، لا بد أن يتحرك القطار. لا مصلحة لأحد في بقائه واقفاً. لا أحد يضمن سلامة الأوضاع. كثير من الضجيج سيعلو خلال هذا الوقت الضائع، بانتظار المرحلة المقبلة.
وليد المعلم وزير الخارجية السوري، رمى أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة الكرة في الملعب الإسرائيلي. سوريا مستعدة لاستئناف مفاوضات السلام عبر الوسيط التركي.. وهي تملك إرادة صنع السلام، بينما إسرائيل تتحدث عن السلام وتقوم بقرع طبول الحرب وابتلاع الأرض بالاستيطان وتهويد القدس. لأول مرة تظهر إسرائيل على حقيقتها أمام المجتمع الدولي، فهي لا تريد السلام وانما الاستسلام. هذه الوضعية تساعد باراك أوباما في تظهير الصورة الحقيقية للوضع في الشرق الأوسط أمام الأميركيين. ما سعى اليه أوباما يتحقق. بدلاً من أن يكون في وجه إسرائيل يضع إسرائيل في وجه الأميركيين والعالم.
فرنسا تعمل جدياً للعب دور في عملية السلام. أُرهقت فرنسا وأوروبا من لعب دور الصندوق المالي والتفرج على مسارات المفاوضات الجدية وغير الجدية، لذلك تأمل بأن تكون قمة برشلونة للاتحاد المتوسطي، قمة تحقق ولو على جانبها خطوة جدية على صعيد المفاوضات السورية الإسرائيلية. المهمة ليست سهلة ولا هي مضمونة. تصلب نتنياهو يجعل من الفشل الفرنسي فشلاً مبرمجاً منذ الآن. من مصلحة دمشق أن تلعب اللعبة الى النهاية طالما أنها لا تخسر وفي الوقت نفسه تثبت الكرة في الملعب الإسرائيلي.
تبقى المفاوضات الإيرانية الأميركية، والإيرانية الغربية، مهما كابر الأميركيون والإيرانيون وانكروا، فإن المفاوضات بينهم تجري على الخطين. لولا نجاح هذه المفاوضات، لما انسحب الأميركيون من العراق بهدوء، ولما حققت قوات الناتو نجاحات معينة في أفغانستان بثمن معقول. طبعاً، لا المفاوضات انتهت ولا نتائجها تبلورت نهائياً. في قلب هذه المفاوضات الملف النووي الإيراني، الطرفان يعترفان أنه توجد سلة حقيقية من الملفات والقضايا يجب أن تتناولها المفاوضات. العنوان الكبير والعريض لهذه السلة: اعتراف واشنطن بأن ايران قوة كبرى في منطقة الشرق الأوسط. ما يعني انها شريكة أساسية في صياغة القرارات والخطط المتعلقة بها. بعيداً عن ضجيج مسلسل عرض الأسلحة المصنعة ايرانياً وآخرها الزوارق الطائرة، فإن طهران اعترفت بلسان رامين مهمان برست بأن مفاوضات حول الملف النووي تجري مع ثلاث مجموعات وعلى ثلاثة محاور:
[ مجموعة فيينا وتضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والوكالة الدولية للطاقة الذرية، تجري مفاوضات حول تبادل الوقود النووي، وان التنسيق مستمر بين ايران وهذه المجموعة لتحديد موعد المفاوضات ومكانها.
[ مفاوضات لتحديد موعد اللقاء والتفاوض بين وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون وكبير المفاوضين الايرانيين سعيد جليلي.
[ مجموعة الدول الخمسة+ واحد والهدف منها الاعتراف بحقوق ايران النووية.
طبعاً الناطق الرسمي باسم الخارجية الايرانية تحدث عما يعرفه. لكن من الطبيعي ان كل ما يتعلق بالأمن والعسكر يتولاه أمنيون وضباط خبراء. الى جانب ذلك فإن القيادة السياسية خصوصاً الرئيس أحمدي نجاد ليست بعيدة مطلقاً عن هذا المسار. بالعكس، يقال ان اللاعب الكبير في هذا المجال هو نجاد نفسه عبر معاونيه وأبرزهم رجل المهمات الخاصة معاونه رحيم مشائي. الطريف من يقوم بتسريب مثل هذه الأحداث يشدد على أن تصعيد نجاد الاعلامي ليس أكثر من قنابل دخانية لحجب ما يقوم به عن الداخل الايراني.
القرار 1929 بدأ تنفيذه، في الوقت نفسه جرى تصعيد الحرب الناعمة، ضد ايران. أبرز أسلحة هذه الحرب السلاح الالكتروني. ما فعله فيروس ستاكسنت في أجهزة المعلوماتية يؤكد ذلك. قد تكون هذه العملية بداية لسلسلة من العمليات التي تشكل أخطر أسلحة الحروب المقبلة في العالم.
كذلك، فتح الجبهة الكردية ضد ايران، جزء آخر من هذه الحرب الناعمة. أيضاً سيتم تصعيد هذه الحرب على جبهات عديدة. بوابات ايران العرقية والقومية عديدة، وإمكانية قرعها بالقوة عبر وسائل محلية ممكن وناضج جداً. رغم ذلك قطار المفاوضات لن يتوقف. يمكن استثمار التطورات الميدانية في المفاوضات. ايران بدورها تردّ أو ستردّ على الحرب الناعمة. يجب انتظار مفاعيل تنفيذ القرار 1929 لمعرفة ردود الفعل الايرانية.
لا يبدو أنه في زمن المفاوضات، التي قد لا ينتج عنها اتفاقات أو نتائج ايجابية ولو محدودة، يمكن أن تفجَّر الساحات. من مصلحة كل الأطراف إثبات نواياها وإراداتها الحسنة. لذلك، هذا التصعيد الذي يعيشه لبنان، سيبقى رغم كل توتراته ودراميته وحتى مخاطره، مضبوطاً. لا مصلحة لأي طرف داخلي أو خارجي تفجير الساحة اللبنانية، لا أحد يملك كل المعطيات. الجميع يعرف أن المرحلة الحالية هي مرحلة تقطيع الوقت الضائع. عندما يتأكد الجميع من نهايات المسارات وأبرزها الايراني الأميركي، يصبح الكلام عن الحرب أو السلام حقيقياً.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.