فاض بحر الحزن في الوطن العربي، حتى غرقت فيه الذكرى الأربعين لوفاة جمال عبد الناصر، فمرّت الذكرى بهدوء حتى على الذين عاشوا حلو المرحلة ومرّها. حتى لو عاد جمال عبد الناصر شاباً منتصباً كالرمح في ساحة التحرير أو جامع الأزهر، فإنه لن ينجح في تحريك السكون في أي شارع عربي. لقد عشش اليأس والاحباط داخل كل بيت، لم يعد الآباء ولا الأمهات يتحدثون عن الوعد بغد مشرق عزيز، كل ما تتحدث به العائلات على ضوء الشمعة عن الرغيف الذي يركض ويركضون وراءه.
يقال، والقول على ذمة الراوي، إن جمال عبد الناصر مصاب بالكآبة الشديدة والعميقة. وإن مختلف الزعماء من نهرو وتيتو وديغول عملوا لمواساته والتخفيف عنه فلم ينجحوا. روى كل واحد منهم له ما يعرفه ويتابعه من فوق عن بلاده. رغم كل المشاكل فإنهم كلهم ما زالوا متفائلين. حتى تيتو الذي بكى وهو يرى يوغسلافيا تمزق وتصبح دولاً ضعيفة لا موقع لها في الجغرافيا والسياسة، خرج من الحزن ورأى في ضعف هذه الجمهوريات ثغرةً ليوم آخر، تدرك فيه شعوبها أنها لم تجن من انقساماتها الطائفية والقومية سوى الخراب. أما الجنرال ديغول فإنه أبدى أمام جمال ألمه لما آلت إليه أوضاع فرنسا بعد أن عادت الى الناتو وأصبحت تستجدي دوراً بعدما كانت تشارك بقوة في صوغ السياسة الدولية. حتى نهرو الذي أبدى غبطته لأن الهند من القوى الصاعدة، فإن قلقة مستمر من محيط المشاكل السياسية الغارقة فيها. الجغرافيا سلاح عظيم، أحياناً تكون سكيناً ضد الجميع وأحيانا أخرى سكيناً على رقبتها تهدد كيانها ووجودها في كل لحظة، واذا لم يكن الوجود مهدداً فالقرار هو الأسير.
اختار عبدالناصر جمال الركون الى نفسه، وعدم إتعاب الآخرين بمشاكله وإحباطاته. لكن شاءت الظروف أن يمر به آسيوي أصرّ على الكلام معه. نظر اليه جمال متعجباً من اصراره، فرد عليه ألا تذكرني: أنا الزعيم العظيم ذو العقل الاستراتيجي الفذ والارادة التي لا تلين والشمس التي لا تغيب والمحبوب من أربعين مليون كوري تقريباً. تذكّره جمال وقال له: أنت كيم ايل سونغ زعيم كوريا الشمالية. فأجابه: نعم، لكني أنا المحبوب من كل الكوريين في الشمال والجنوب. يوماً ما سيوحّدهم أحد أبناء سلالتي.
تعجب جمال من تفاؤل كيم، قائلاً: عجيب تفاؤلك، ألا تعرف ان الكوريين الشماليين أصيبوا بالمجاعة مرات عدة، آخرها قبل عام. رد الزعيم المحبوب: أعرف كل شيء في البلاد. حتى الآن لا تسقط شعرة من رأس أي مسؤول حتى لو كان مختاراً أو عمدة في أعمق أعماق البلاد الا وأعرف متى وكيف ولماذا حصل ذلك. أتعرف أيها الرفيق جمال لقد انهارت الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي، وترسملت الشيوعية في الصين. أما في كوريا فما زالت الشيوعية صامدة. لم يستطع جمال أن يكتم غضبه فقال: ولكن على حساب الشعب الكوري.
كيم ايل سونغ رد بغضب: ماذا لقد أصبحنا قوة نووية يحسب لها حساب، فماذا يريد الشعب الكوري أكثر من هذا المجد. اليوم القنبلة النووية وغداً أو في المستقبل الرز والبراد والغسالة. أضاف هل تعرف لماذا نجحت أنا وفشلت أنت لأنني على علم بكل ما يحصل عندكم في مصر ومن المحيط الى الخليج؟ لم ينتظر كيم أن يجيبه جمال وتابع: اليوم ذكرى وفاتك. واليوم بدأ حفيدي خطواته الأولى نحو وراثة السلطة من والده الزعيم المحبوب كيم ايل جونغ. لقد نجحت في اقامة نظام متماسك، كل واحد يعرف موقعه ودوره ومهماته. نجحنا لأننا شعب من النمل. كل كوري في خدمة الكوريين وكوريا. ورد جمال وايل سونغ وآل سونغ.
لم يكتم كيم ايل سونغ غضبه فانفجر قائلاً: على الأقل كل شيء محسوب بدقة. حتى عملية الخلافة مبرمجة. لقد ورث ابني الزعيم المحبوب الزعامة ونجح. وها هو يعمل لتسليم الأمانة لابنه. طبعاً ما زال عوده طرياً على السلطة لذلك فإن عمته ابنتي العزيزة ستتولى الاشراف على نضجه.
أسمعت ما قاله ابني: كلمة شقيقتي كلمتي وأوامرها أوامري. كل الجنرالات صفقوا وقالوا الشمس الساطعة تبارك هذا القرار، أما عندكم، فإن كل زعيم يريد توريث ابنه ولا يجرؤ على أن يقول ما يريده علناً. هل تريدني أن أعدّد لك الأمثلة على امتداد ما كنت تقول عنه الوطن العربي؟. لأول مرة ظهرت المرارة على وجه جمال عبد الناصر وردد: أعرف. أعرف ماذا يحصل. حتى بعض الحروب التي تنفجر انما تكون قنابل دخانية لتغطية لعبة التوريث، المأساة أن شعوبنا تدفع الثمن من روحها وكرامتها وعيشها.
أعرف جيداً ماذا فعل الذي قلت عنه انه أمين القومية العربية وأصبح ملك ملوك أفريقيا. كل ما يهمه توريث ابنه رغم أن سيفه أصبح من خشب، وأتألم صباحاً ومساء لما يحصل في السودان وكيف يقسم وأترقب بقلق وخوف للعواصف القادمة على مصر وافريقيا. وأتابع ما يحصل في الصومال الذي تصومل، واليمن المهدد بأن يصبح عدة دول بعد أن فرحت بوحدته وصفّقت لها. والأخطر وضع العراق وكأنه سكين تحفر في جسمي كل يوم جرحاً لا يندمل. هل يعقل أن يصبح اختيار رئيس للوزراء في العراق موضع مساومة ومقايضة بين واشنطن وطهران وباقي الدول الشقيقة؟. وهل يمكن تحمّل ما يتحمله اللبنانيون يومياً من الضغوط والتهديدات المتبادلة بأن يطلق كل طرف النار على رأسه لأنه لا يتحمل عدم اذعان الطرف الآخر لخياراته؟.
نظر جمال عبد الناصر بحزن شديد قائلاً: أيها الرفيق كيم ايل سونغ. أنت لا يخجلك أن يذهب ابنك الى الصين طلباً منه للموافقة على توريث حفيدك اليافع. لا بل انك سعيد جداً بالآلة التي صنعتها. أما أنا فإن أكثر ما يحزنني ان الطبقة المتوسطة التي عملت لنموها وتثبيتها وكانت الجامعات بوابتي الى ذلك، قد تراجعت. لقد تضاعفت ثلاث مرات في العالم الا في الوطن العربي تراجعت. لا هي استطاعت الخروج من حاجتها للزعيم، ولا هي استطاعت أن تقدم النخب التي تخلق أفكاراً ورؤى ومشاريع للتغيير والتقدم. أرجوك أيها الرفيق كيم دعني في حزني. لعل التغيير يخرج من قلبي هذا اليأس والاحباط. لقد حان الوقت للتغيير وشعوبنا قادرة على ذلك من دون حاجة لزعيم محبوب من الملايين!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.