مساران يتنافسان ويتزاحمان ويتسابقان، ليفرض كل واحد منهما خياراته ومعادلاته على منطقة الشرق الأوسط مسار المفاوضات الأميركية-الإيرانية، ومسار المفاوضات الأميركية الإسرائيلية. الأول يجب أن ينتهي إما بصفقة كبرى أو الحرب. الثاني، الحرب أو الحرب.
لم يعد يجدي انكار واشنطن وطهران وجود نافذة غير رسمية مفتوحة بينهما. الجسر للعبور من النافذة الى رحابة الصفقة الكبرى، تبادل تقديمات أمنية. الكثير من نتائجها تترجم ميدانياً مباشرة أو لاحقاً، كما حصل مع الانسحاب الأميركي القتالي من العراق بنظام وهدوء. من الممكن أحياناً، تبادل كرات النار. في كل المفاوضات على هذه الدرجة من الأهمية والمصيرية يتم المزج بين التقديمات والرسائل الدامية أحياناً.
السؤال الكبير هو: هل جاء الوقت لإجراء المصالحة التاريخية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية في إيران؟
للطرفين مصلحة في إنجاز هذه المصالحة. المشكلة في قدرة كل عاصمة منها على الحسم الذي تتوقف صياغته على القدرة وليس على الرغبة. الثمن هو عقدة العقد في هذا المسار. كل طرف من الطرفين، الأميركي والإيراني على السواء يريد معرفة الثمن الذي عليه أن يدفعه والثمن الذي يجب أن يقبضه. من الطبيعي أن كل واحد يريد ويعمل على تخفيض الكلفة مقابل رفع حصته من الفوائد.
واشنطن الأوبامية مختلفة جداً عن واشنطن البوشية، لأنها مثخنة بجراح الغزو للعراق والحرب في أفغانستان. أوباما تسلم الرئاسة، بعد أن كان الغزو قد كلف الخزينة الأميركية أكثر من الف مليار دولار، والكثير من مصداقيتها في وقت غرق الاقتصاد الأميركي فيه حتى أنفه في مستنقع الأزمة المالية. أوباما يريد فعلاً التوصل الى اتفاق مع إيران، لأنه يرى في ذلك مصلحة للولايات المتحدة الأميركية تجنبها مواجهات كلفتها عالية وغير مضمونة النتائج. لكن أوباما رئيس الولايات المتحدة الأميركية، الذي مهما كانت نزعته سلمية يبقى سقف تنازلاته منخفضاً، لأنه إذا أعطى بلا حدود، ماذا يمنع قوى إقليمية أخرى في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا أن تلعب وتراهن على ضعفه وتطالبه أيضاً بثمن لتحالفها أو مهادنتها لبلاده القوة العظمى في العالم.
إيران، لا تريد الحرب. لكن هل تريد أن تصل المفاوضات الى نهاية سعيدة أم انها تعمل على شراء الوقت لفرض أمر واقع على واشنطن؟
الرئيس أحمدي نجاد كما تؤشر كل الأحداث، بعيداً عن ضجيج وصخب الحملة النفسية، يريد الحل مع واشنطن. لذلك فإن اسفنديار رحيم مشائي رجل المهمات الصعبة وموضع ثقته يتولى مهمة التفاوض غير الرسمي. المشكلة ان نجاد يريد الاتفاق، لكن هل يقدر على ذلك، خصوصاً وأنه لا يملك القرار النهائي في طهران لأنه توجد مراكز قوى متنافسة تعمل على فرض نفسها ولو انها جميعها ما زالت تلعب تحت عباءة الولي الفقيه؟. الهدف هو المستقبل وتحديد نهج النظام. المهمة ليست سهلة. من يربح اليوم يحكم غداً.
واشنطن تعرف خبايا وخفايا المواقف في طهران من جهة، ومن جهة أخرى فإن أوباما ليس طليق اليدين. ذلك أن النافذة المفتوحة ليست مفتوحة على الوقت. بالعكس الوقت محدود وهو يتناقص يوماً بعد يوم. الأميركيون متأكدون من أن طهران ستحصل على القوة النووية العسكرية في مدة أقصاها 24 شهراً، أي مع نهاية الولاية الرئاسية لأوباما. لا يمكن للمؤسسة العسكرية الأميركية تحمل مثل هذا الواقع. مهما كانت حالياً ضد خيار المواجهة العسكرية مع إيران، فإنها ستتخلى عن كل تحفظاتها متى تأكدت من التحول النووي الإيراني.
تتمة المشهد الأميركي في تفاصيل مسار المفاوضات الإسرائيلية الأميركية، منذ مجيء بنيامين نتنياهو الى السلطة في إسرائيل، والمفاوضات يومية بين واشنطن وتل أبيب. الإسرائيليون على مختلف أطيافهم يريدون الحرب ضد إيران. وقوف أوباما ضد هذا الخيار، ومساندة المؤسسة العسكرية الأميركية لهذا الموقف يمنع إسرائيل من شن الحرب. لذلك تجري يومياً مباحثات في معظمها مفاوضات لتغيير الموقف الأميركي.
القادمون من واشنطن الذين على تماس يومي مع مراكز الأبحاث المؤثرة في صياغة القرارات، يؤكدون ان الماكينة التي عملت وحضرت وأنجزت عملية غزو العراق تعمل حالياً في واشنطن بزخم شديد للحرب ضد إيران، وهي ناشطة لتهيئة الأجواء لكي تتقبل الادارة الأوبامية دفع الثمن الذي يجب أن تدفعه لخيار الحرب. ما يساعد ويدعم هذه الماكينة، انه اذا لم يستطع أوباما عقد الصفقة التي يريدها مع طهران، فإنه لن يستطيع مقاومة هذا الخيار. الأرجح عندئذ ان تقع الحرب. أيضاً، إن المؤسسة العسكرية الأميركية الملتزمة أساساً بمبدأ أميركا أولاً ستجد نفسها أمام تصاعد ونمو المجموعة التي تخلط بين مصلحة أميركا واسرائيل في موقع لا يمكنها مقاومة الدخول في الحرب.
يضيف القادمون من واشنطن ان اسرائيل تعمل على اشعال الحرب ضد ايران لأنها لا تقبل بإيران نووية أولاً، وثانياً وهو مهم جداً لأنها لا تتحمل أن يكون لايران نفوذ قوي يقف إلى جانبها ويزاحمها. ما يقلقها أكثر أن تنجح طهران قبول أوباما بأن تعامل كقوة اقليمية لها كلمتها في مسارات منطقة الشرق الأوسط.
أقوى السيناريوات حول خيار الحرب، أن يوقظ بنيامين نتنياهو الرئيس أوباما فجر أحد الأيام المقبلة، ليخبره أن مائة طائرة اسرائيلية قد أصبحت في الجو وهي تتجه نحو ايران لقصف سلة الأهداف التي سبق وأن أطلعت تل أبيب واشنطن عليها. عندئذ لن يتمكن أوباما سوى الانخراط في الحرب، لأنه ليس قوياً بما يكفي، خصوصاً اذا جاءت الحرب وهو في خضم حملته الرئاسية لولاية ثانية. إلى جانب ذلك فإنه لا يتمتع بالقوة التي تمتع بها الرئيس ايزنهاور في حرب السويس عندما أمر باريس ولندن واسرائيل بوقف الحرب ضد مصر. إلى جانب قوته، كان ايزنهاور يراهن على وراثة الامبراطوريتين الفرنسية والبريطانية وقد نجح في ذلك.
علائم ظهور الحرب ضد ايران وتوريط اسرائيل للولايات المتحدة الأميركية فيها، لن تظهر قبل مرور عام ما لم تحصل وقائع انقلابية مفاجئة. الآن تتعاون طهران مع واشنطن في العراق وأفغانستان. المهم الباقي، أي الانخراط للوصول إلى النهاية الصعبة، والقبول بمفاعيل مثل هذه المصالحة على كامل رقعة الشرق الأوسط أي علاقاتها مع حركتي حماس والجهاد في فلسطين، وحزب الله في لبنان. الاتفاق يكون على سلة متكاملة أو لا يكون. ما يرفع من مخاطر الوضع، انه على جميع الجبهات يبدو غارقاً في أزمات بركانية بلا أفق. عادة لا يكون الحل سوى انفجار بركان كبير يجبر كل الأطراف الجلوس على طاولة المفاوضات.
هذا ما حصل في العام 1973، عندما لم يبقَ أمام الطرف العربي من حل سوى خوض مغامرة الحرب الشاملة، فأمسكت واشنطن الكيسنجرية بالفرصة ودفعت بالجميع، بعد أن أنهكتهم الحرب، خصوصاً اسرائيل التي فتحت معها جسراً جوياً لانقاذها إلى دفع الثمن. استعادت مصر سيناء بعد أن انفصلت عن الوطن العربي، وبقيت اسرائيل في الضفة الغربية وغزة حتى انفصالهما بأيدٍ فلسطينية وفي الجولان لأن الرئيس الراحل حافظ الأسد أصر على العودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967.
انتهى الحل الكيسنجري دون إنجاز السلام الشامل، فهل يكرر التاريخ نفسه؟.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.