خوف حقيقي، وقلق عميق يسودان فرنسا على الصعيدين الرسمي والشعبي. الخوف أولاً، من تهديدات القاعدة وخصوصاً من فرعها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي. الفرنسيون يأخذون بجدية كبيرة الخطر الذي تمثله هذه التهديدات للأراضي الفرنسية. الاستنفار شامل. الدوريات العسكرية المسلحة في كل مكان، خصوصاً في محطات المترو. المشكلة، ان القاعدة طورت تقنياتها. الدليل كما يقول خبراء أمنيون فرنسيون، ان الشحنات من المواد المتفجرة التي اكتشفت مؤخراً في الطائرات المتوجهة الى الولايات المتحدة الأميركية، هي من النوع نفسه الذي كان بحوزة الانتحاري النيجيري فاروق عبد المطلب.
الترجمة الأمنية لذلك، ان المتفجرات مرت على الأجهزة الالكترونية وغيرها ولم تكتشف. التحدي كبير جداً، ولعله الأخطر بالنسبة لفرنسا منذ سنوات. أكثر من ذلك، وهو الذي يعني الفرنسيين مباشرة، ان الأجهزة الأمنية كشفت مؤخراً توجه عدد من شباب الضواحي الفرنسية الى اليمن. لا أحد من الأجهزة الأمنية يستطيع التأكد هل توجههم للالتحاق بالمدارس الدينية فقط، خصوصاً وأن موجة من التدين تجتاح مجتمع الضواحي وهي تبرز في انتشار غير عادي للحجاب بين الفتيات، أم أنهم ذهبوا للالتحاق بأحد أخطر وأبرع فروع القاعدة في العالم، الذي كما يقول الخبراء هو الأكثر ابتكاراً والأكثر جرأة من بين كل فروع القاعدة لحركات الارهاب. مجرد هذا الاحتمال يرعب الأجهزة الأمنية فكيف بالفرنسيين؟.
القلق عميق جداً. فرنسا تعيش أزمات غير مسبوقة. ليست المسألة في الاضرابات والمظاهرات. هذه عادة فرنسية تكاد توازي عادة التهام الخبز والجبنة والنبيذ. المشكلة ان فرنسا تتراجع اقتصادياً واجتماعياً، وسط سلطة ضائعة وغير خلاقة وغارقة في سلسلة من التحركات التي تؤكد يومياً عجزها عن الابتكار والمعالجة الايجابية للأزمات، مرتكزة على هموم شخصية أساسها كيف يمكن للرئيس نيكولا ساركوزي الفوز في الانتخابات لولاية رئاسية ثانية، وهو الذي لم تصل شعبية أي رئيس فرنسي الى هذا الدرك من اللاشعبية.
طبعاً الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يعمل كثيراً على تحسين صورته بالقفز الى الأمام في دوائر السياسة الخارجية. ما يساعده على هذه القفزات أنه يرأس حالياً مجموعتي العشرين والثمانية الكبار. رغم ذلك لا يمكن لأحد في الدوائر القريبة من ساركوزي كتم الاحباط الذي أصابه من صديقه بيبي. فقد أضاع منه صورة لقاء القمة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون في 21/10/2010. كما أن قمة برشلونة في 21/11/2010 مهددة بعدم الانعقاد بسبب مواقف نتنياهو وحكومته من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. أكثر من ذلك ساركوزي اصبح متأكداً ان صديقه بيبي إذا أراد تقديم أي تنازل، أو أي ورقة فسيقدمه للرئيس الأميركي باراك أوباما.
إذن: أين لبنان من كل هذا الخوف والقلق؟
تعترف باريس علناً بأن الموقف الأميركي من لبنان وسوريا قد تغير كثيراً. لكن رغم تقاطعها مع الموقف الأميركي وقبولها بالأسباب الموجبة لكل هذا التغيير، فإنها لا تبدو مستعدة حالياً لتغيير موقفها من العلاقات مع دمشق. من ذلك أن باريس أعطت دمشق كثيراً ولم تأخذ منها شيئاً. صحيح كما تقول باريس أعطينا لدمشق وكالة على لبنان. لكنها كانت وما زالت وكالة تحت المراقبة والمتابعة أولاً. ثانياً أن هذه الوكالة ليست حصرية ولا مطلقة وبشرط العمل على ضمان الأمن والاستقرار في لبنان، ومساعدة الحكومة اللبنانية على مواجهة المصاعب المتزايدة عليها.
ما حصل ويحصل ان دمشق لم تلتزم بوعودها وهي تتابع تسليح حزب الله بكل أنواع الأسلحة، ولذلك فإنّ كشف الاعلام الفرنسي خصوصاً صحيفة الفيغارو، للمعابر التي يتم عبرها تمرير الصواريخ إلى لبنان ووجود مخازن للصواريخ القادمة من إيران داخل الأراضي السورية، كان رسالة علنية لدمشق بضرورة تهدئة اللعبة. كذلك فإنّ دمشق تابعت وتتابع علاقاتها مع حركة حماس، مما أحبط جهود المصالحة بين السلطة الفلسطينية وحماس. أما الأهم فإنّ دمشق صعّدت من عمق ومتانة علاقاتها مع طهران، وقد شكلت زيارة الرئيس أحمدي نجاد إلى لبنان مؤخراً، ما اعتبرته باريس كما واشنطن تحدياً لا يمكن بلعه.
رغم كل هذه المآخذ الفرنسية، فإنّ العلاقات السورية الفرنسية لا تبدو حالياً معرضة للخلل أو الضعف. الواقعية السياسية تفرض على باريس متابعة مسار علاقاتها مع دمشق بقوة، الأسباب عديدة أبرزها:
*عدم الثقة بالموقف الأميركي المتغير. باريس تخاف من الواقعية السياسية الأميركية التي تدفعها إلى اتخاذ قرارات مفاجئة تكون أحياناً انقلابية. ولذلك فإنّ باريس تفضل أن تبقي مسافة بينها وبين موقف واشنطن حالياً، رغم اعترافها بأن مواقفها أضعفت قوى 14 آذار في لبنان والسلطة الفلسطينية في وقت واحد.
*ترى باريس انها في هذه الفترة بحاجة لدمشق. الأصح القول بحاجة للتعاون السوري على الصعيد الأمني. باريس تثق بقدرات وامكانات دمشق على التعاون معها لمواجهة التهديدات الأمنية من القاعدة وغيرها وإحباطها. لذلك فإنّ العلاقات بين باريس ودمشق ممسوكة حالياً من الجهات الأمنية المختصة أكثر بكثير من وزارة الخارجية التي يستعد وزيرها برنار كوشنير للخروج منها في التعديل أو التغيير الوزاري خلال الأسبوعين المقبلين. ولقد استطاعت العلاقات مع دمشق من تحقيق مكاسب أمنية كبيرة، ولذلك يجب متابعة العلاقات. إلى جانب ذلك فإنّ دمشق تبقى بالنسبة لباريس قناة حوار إيجابية مع طهران لا يمكن التخلي عنها خصوصاً وانها أعطت نتائج إيجابية مهمة منها إطلاق سراح الفرنسية الإيرانية وايس.
يبقى أخيراً ان باريس تبدو مطمئنة إلى أمر واحد، ان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تبقى خارج كل تطورات مسار علاقاتها مع دمشق وحتى حزب الله، لأن التسوية على المحكمة تبدو مستحيلة، لأن أي تسوية تطرح سؤالاً أسياسياً وهو بين مَن ومَن؟ وعلى ماذا؟. في ظل النظام الخاص للمحكمة، لا يوجد أي طرف له الصلاحية أو القدرة على إلغاء المحكمة أو حتى اللعب على توجهاتها فكيف بقراراتها؟
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.