الموقف الأميركي الذي أطلقه وزير الدفاع روبرت غيتس حول إيران ليس جديداً في مضمونه. الجديد فيه توقيته، ومن ثم تدعيمه بكلام الجنرال مولن رئيس الأركان العامة للجيش الأميركي . يبدو أن مباحثات الغرف المغلقة بين بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي باراك أوباما وهيلاري كلينتون لم تكن كافية لإقناع الإسرائيليين بأن لا حرب ضد إيران في المستقبل المنظور، حتى ولو فاز الجمهوريون بالانتخابات النصفية. من الواضح أن المؤسسة العسكرية الأميركية مقتنعة جداً بقرار الإدارة بعدم فتح جبهة حربية جديدة في وقت تتحوّل فيه أفغانستان الى فييتنام صغيرة منهكة جداً، خصوصاً في ظل الأزمة المالية التي لم تنته مفاعيلها ولا آثارها حتى الآن.
الواقعية السياسية لا تكفي لتفسير الموقف الأميركي. استناد هذه الواقعية الى مواقف ومفاعيل اختبارات متبادلة يفسر كل شيء. التوافق الأميركي الإيراني الضمني على إنهاء الأزمة العراقية وتشكيل سلطة تتمثل فيها كل الأطياف العراقية يؤشر الى ذلك التسهيلات اللوجستية وربما الأمنية الإيرانية ضد الطالبان، مهمة ومؤثرة جداً على موقف المؤسسة العسكرية الأميركية. في أولى أوليات هذه المؤسسة، الحد من الخسائر ومن ثم تخفيف الأعباء العسكرية، وصولاً الى ضمان انسحاب عسكري في المستقبل المنظور من دون أن تسقط أفغانستان في يد الطالبان. طبعاً، للإيرانيين مصلحة مباشرة وحيوية في إضعاف الطالبان وإبعاد شرّهم عنهم. أيضاً لا يمكن إغفال وضع واشنطن لتنظيم جند الله على لائحة الإرهاب. هذا القرر يشرّع للإيرانيين كل النشاطات العسكرية ضد هذا التنظيم الذي وجّه ضربات قاسية لهم، ويهدد الأمن القومي الإيراني في صميمه من حيث إشعال فتنة شيعية سنية في عقر الدار الإيرانية.
الشعور القومي الإيراني، هو الإسمنت المسلّح للمجتمع الإيراني. من الصعب جداً، لا بل ربما من المستحيل أن يعثر الأميركيون أو غيرهم على مرشدين ومترجمين إيرانيين في حال غزوا إيران. مهما ذهبت المعارضة في معارضتها للنظام، لا يمكن أن تعرض الأمن القومي الإيراني للخطر. سبق وأن قال ذلك الشيخ مهدي كروبي وحسين الموسوي قطبا المعارضة الخضراء. اقتناع الإدارة الأوبامية بهذا يعود الى خبرة قديمة مستندة الى واقع قائم. النظام نفسه يعرف هذا المصدر القوي له، الرئيس أحمدي نجاد ذهب بعيداً في العزف على أوتار هذا الشعور، الى درجة الحديث عن الإسلام الإيراني وعظمته. رغم اعتراض كبار رجال الدين، لم يتراجع نجاد عن ذلك، لا بل دعمه بمواقف أكثر تشدداً.
عدم امتلاك الجمهورية الإسلامية في إيران السلاح النووي هاجس مشترك أميركي إسرائيلي، وحتى يمكن القول بأنه دولي وإقليمي. فقط كيفية إقناع الإيرانيين أو منعهم من امتلاك هذا السلاح مختلف عليها. الإسرائيليون يريدون ذلك بالحرب. بهذا لا تعود توجد قوة إقليمية تنافسهم على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط. طبعاً، يعرف الإسرائيليون أنه لا يمكنهم وحدهم القيام بهذه الحرب فكيف بالانتصار فيها. لذلك القرار يبقى قراراً أميركياً مئة في المئة.
حتى الآن ينفي الإيرانيون نيّتهم امتلاك السلاح النووي، ما قاله غيتس حول تشريع امتلاك الإيرانيين هذا السلاح في حال شنّت الحرب ضدهم صحيح مئة في المئة. سيتأخر المشروع النووي سنوات عدة، لكن لن يبقى إيراني واحد يقف ضد امتلاك بلادهم لهذا السلاح، من باب حق الدفاع المشروع عن بلادهم وقوميتهم.
العقوبات هي البديل. القرار الدولي 1929، زائد العقوبات الأحادية الأميركية والأوروبية، بدأت تطبّق. بعض مفاعيلها بدأت تظهر على إيران. يجب الذهاب حتى النهاية في تنفيذ العقوبات، لا يمكن التوقف في بداية الطريق. ما يشجع على المضي فيها بعض التقارير من الداخل الإيراني حول النتائج. المشكلة أن شرائح واسعة من الإيرانيين بدأت تتضرر من العقوبات وليس الدوائر الواسعة أو الضيّقة من النظام. طبعاً غيتس يراهن على إحداث شرخ داخل البيت العميق للنظام.
تقارير كثيرة بعضها يخرج من إيران والبعض الآخر من العواصم الغربية تؤكد أن العقوبات أدت الى توجيه ضربة قوية لقطاع النفط الذي يؤمن ثلثي عائدات إيران. إذ إن الإنتاج انخفض مع مطلع أيلول الماضي الى 3,5 ملايين برميل فقط يومياً، أي بخسارة 700 ألف برميل يومياً، ويعود ذلك الى ازدياد النقص في قطع الغيار وانسحاب الشركات الضخمة مثل توتال وشل وايني الإيطالية من السوق أحدث ضربة قوية أكبر، خصوصاً مع التشدد الأميركي تجاه الشركات المتعاملة مع طهران. حرب البنزين مشتعلة. توقف شركة Tupras الموجودة في تركيا والسويسريتين Vitol وGleucore والهندية Reliance والروسية Lukoil دفع إيران للاعتماد على فنزويلا والصين وتركمانستان والتهريب عبر العراق. اللجوء الى هذه المصادر البعيدة رفع كلفتها خصوصاً مع تمنّع المصارف عن تقديم الخدمة والضمانات. في بلد مثل إيران، حيث المسافات بين المدن ضخمة، لا بد أن تؤدي تكلفة الاستيراد الى رفع كلفة المعيشة. استناداً الى كل التقارير فإن ثمن الخبز ارتفع خلال عام واحد خمس مرات واللحم ثلاث مرات، والآتي أعظم مع قدوم الشتاء.
الرئيس أحمدي نجاد يؤكد بأن العقوبات لا تأثير لها ويمكن مواجهتها. يوميات الإيرانيين ستؤكد كلامه أو تسقطه فتضرب مصداقيته أمام القيادة، ما يعزز ذلك أن علي لاريجاني رئيس البرلمان يتحدث علانية عن الآثار السلبية للعقوبات. من الصعب جداً كما يأمل غيتس وقوع حرب بين المرشد آية الله علي خامنئي والرئيس أحمدي نجاد، لكن من الممكن حدوث شرخ في الثقة بينهما، مما سيكون له انعكاسات حقيقية وعميقة على مستقبل تشكيل النظام لدى انتهاء ولاية أحمدي نجاد. على كل حال لا شيء مستحيل، خصوصاً إذا ما ظهرت مفاعيل العقوبات بقوة على الإيرانيين وأدت الى إضرابات، خصوصاً في البازار وتظاهرات شعبية ضد الغلاء والصعوبات المعيشية. الرسالة التي وجهها غيتس ومولن الى إسرائيل واضحة، لا حرب ضد إيران، وترك الوضع الإيراني ينضج على وقع العقوبات، تتضمن رسالة أيضاً الى طهران، تقول إن مسألة اختيار مفاعيل العقوبات ليست مفتوحة زمنياً، لن تترك واشنطن طهران تنتصر على الوقت بالوقت، من الواضح أن واشنطن تعطي لطهران فترة زمنية محدودة لا تتجاوز السنة! بعد ذلك يبدأ العد العكسي لباقي الخيارات ومنها العسكرية. خلال هذه الفترة أي حتى مطلع 2012، على طهران أن تكون حسمت موقفها سواء في ركوب قطار المفاوضات وعدم النزول منه حتى محطة الحلول النهائية، أو الاستعداد لحرب مفتوحة ستكون إسرائيل الرابحة الكبيرة منها مهما كانت نتائجها، إحدى النتائج الأساسية والكبرى ستكون تدمير البنى التحتية الإيرانية على الأقل، وبالتالي تغيير خريطة الشرق الأوسط كما لم يرد في أسوأ السيناريوهات وأكثرها تشاؤماً.
فهل تترك طهران قبل غيرها إسرائيل تحصل على ما تريد، لأن قيود الإيديولوجيا أقوى من وعود الواقعية السياسية؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.