لم يعد العراقيون يمانعون أو يتمنعون في الحديث باستفاضة ولو ببعض الأسى، عن لبننة نظامهم. أبعد من ذلك أصبحوا يقارنون بين التفاصيل الصغيرة التي تظهر على السطح، للتأكيد على التطابق الحاصل يومياً بين البلدين في كل ما يعني مسارات تشكُّل النظام الجديد. تشكيل الحكومة الجديدة بعد مخاض سبعة أشهر برئاسة نوري المالكي، هو الصحن اليومي، للمقارنة بين ما جرى في لبنان قبل تشكيل الحكومة وما يجري في العراق.
اللبنانيون ذهبوا الى الدوحة، ليخرجوا من أزمتهم، وليعودوا بصيغة لتشكيل الحكومة. العراقيون لم يذهبوا فبقوا في العراق حتى لا يتفرقوا أكثر مما هم متفرقون، ويدخلون في حرب أقسى من الحروب السابقة. ليس حزب الدعوة هو الذي نجح في إدارة اللعبة السياسية، وحقق الفوز، نوري المالكي هو الذي قطف ثمار عناده وصلابته من جهة وضعف معارضيه من جهة أخرى. أياد علاوي، فشل لأنه شيعي ولا يمثل الشيعة، لكنه من جهة أخرى، ضمن لـالرافعة السنية التي جعلته طرفاً أساسياً في الصراع، حضوراً في التركيبة السياسية، كان من المستحيل أن تكتمل بدونهم.
الحكومة التي سيشكلها نوري المالكي، لن تختلف تفاصيلها كثيراً عن تفاصيل تشكيلة الحكومة اللبنانية. لكل قوة تمثيلها. خروج أي واحدة منها تجعل من الحكومة معلّقة والأزمة مفتوحة. أيضاً كما في لبنان في العراق، لا مصلحة لأي قوة أن تبقى خارج السلطة. ربما في العراق المسألة أكثر حدة، لأنه حالياً يتم تشكيل السلطة لفترة قادمة قد تكون طويلة حسب التطورات والمعادلات المركّبة. نوري المالكي يعرف ذلك جيداً ولذلك كسب المواقع عبر استثمار هذه الحاجة لمصلحة مساره وسلطته.
أسئلة كثيرة تدور حالياً تبدو بلا إجابات محددة، منها: كيف نجح المالكي في إقناع واشنطن به، لا بل كيف أصبح المرشح الأوحد لطهران، بحيث بدت مستعدة لتفجير الحل على قاعدة: المالكي أو لا أحد. وكيف استطاع المالكي الذي كانت تعتبره دمشق وبالتفاهم مع الرياض وأنقرة مرفوضاً، القبول به والتخلي عن أياد علاوي الخيار الكبير للرياض وأنقرة؟ كيف قبلت واشنطن بانضمام السيد مقتدى الصدر والمهدويين الى الحكومة المالكية وهي التي كانت تعتبرهم خطراً قائماً من المطلوب على الأقل عزله؟
يبدو ان رغبة واشنطن بالحل الممكن وليس المطلوب، دفعت نحو الحل التسووي الذي وافقت عليه كل القوى. لا شك أن طهران هي الرابح الكبير حتى الآن، تليها في ذلك دمشق لأنها عملت مثل المنشار على خط طهران الرياض أنقرة. في الذهاب وفي الإياب تأكل، في حين أن آخرين تابعوا سياسة لحس المبرد. دمشق تبدو سعيدة من المكاسب التي حققتها حتى الآن. سيسمى بعض رجالها أو حلفائها في وزارات مهمة. الأهم أن وعوداً كبيرة قدمت لها على صعيد الاقتصاد والنفط والاستثمارات. إذا سارت الأمور كما تشتهي ستعوض دمشق تدريجياً خسارتها في إنتاج النفط الذي يتدنى سنة بعد سنة.
قراءة التطورات في العراق المستندة الى مجريات العقود الثلاثة الأخيرة حتى الآن، تؤكد الصيغة التي يطرحها العراقيون حول التماثل بين لبنان والعراق في علاقاتهما بمحيطهما الجغرافي.
لبنان كان وما زال بالنسبة لدمشق خاصرتها الضعيفة. دمشق بحاجة للبنان لحماية أمنها، لذلك لا يمكنها أن تتخلى عنه اليوم وغداً. من أجل ذلك كل استراتيجيتها وتكتيكها سيبقى في خدمة هذه الصيغة. أما العراق، فإنّه بالنسبة لدمشق كان وما زال حديقة خلفية لاقتصادها. كل ما يأتيها منه اقتصادياً يبقى مكسباً إضافياً. في السنوات الأخيرة لنظام صدام حسين فتحت أبوابها بعد عداء طويل من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية أصبحت معروفة. اليوم وغداً سيبقى همّها الأساسي تحقيق المكاسب الاقتصادية والعمل لاستمرار وحدة العراق لأنه يعني أمنها الاستراتيجي، فهي مثل تركيا وإيران لديها، وإن بنسبة أقل، مشكلة كردية. أي خلل في وحدة العراق يؤذيها.
العلاقة بين العراق وإيران، معكوسة. العراق خاصرتها الضعيفة، الذي تخاف منه على أمنها الاستراتيجي. تجربة الحرب في التسعينات علّمت طهران أن تخاف من عراق قوي خارج عن رقابتها. لذلك علاقة طهران بالعراق استراتيجية لا يمكنها القبول اللعب بها. طهران تعطي في العراق، طالما ان التشكيلة القائمة للنظام تتوالد ضمن الدائرة التي تريدها. لبنان في هذا الاطار يبقى استثماراً سياسياً بالنسبة الى طهران وحتى إنها تأخذ في الاعتبار ما تريده دمشق. الطرفان الايراني والسوري كما يرى العراقيون حالياً يعرفان حدودهما رغم محاولة كل واحد منهما توسيع دائرته، دون أن يصل الأمر إلى حالة التنافس السلبي.
الفرق بين دمشق وطهران في كل هذه اللعبة ان الأولى خرجت من دائرة العزل والحصار مع بقاء المراقبة والمتابعة عليها، في حين ان الثانية تبدو معزولة والحصار يضيّق الخناق عليها. ارتفاع منسوب الحديث عن ان أهل المنطقة أدرى بمشاكلها وهم قادرون على حلها دون تدخل الآخرين من القوى الدولية وتحديدا واشنطن، محاولة إيرانية جدّية مدعومة من دمشق، لصياغة منظومة اقليمية دفاعية تحت بند التعاون الاقتصادي المنتج للجميع. صيغة خمسة زائد واحد، أي: سوريا وتركيا وإيران والعراق والأردن زائد لبنان تعني تشكيل قوة اقتصادية مهمة، لكن أين وكيف يمكن عزل السياسة عن الاقتصاد؟ أبعد من ذلك عندما تطرح طهران صيغة 6 و6 مكرر أي المجموعة الأولى زائد مجموعة دول مجلس التعاون الست، فإنّ ذلك يعني تشكيل قوة اقليمية ضخمة تملك المال والنفط والماء، فهل يمكن ذلك، أو بالأحرى هل هذا مقبول خصوصاً وأن سؤالاً كبيراً سيقوم أمام الجميع وفي المقدمة الغرب وواشنطن؟ ماذا عن إسرائيل التي تعمل لتفكيك الدول القائمة فإذا بها أمام عملاق بهذا الحجم؟ هل هذا مقبول أو مسموح وكيف يمكن جمع النفط والماء في وقت واحد؟ بوضوح أكثر، كيف يمكن التوفيق أولاً بين تركيا التي لم ولن تخرج من حلف الأطلسي ولا من علاقاتها الأميركية، وإيران التي تعتبر نفسها في مواجهة مع الأطلسي وخصومة مع الغرب وواشنطن؟.
المشاريع ضخمة جداً، والطموحات أضخم. المهم أن يلتزم الجميع بالواقعية، خصوصاً وأن طموح العراقيين مثل اللبنانيين حالياً ولسنوات ليس أكثر من ضمان الأمن والاستقرار، حتى لا يبقوا وقوداً للخلافات والمنافسات ولحم مدافع لحروب الآخرين على أرضهم.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.