أكدت طهران مرة أخرى، انها تترك دائماً ورقة مخفية، تخرجها في التوقيت الذي يناسبها ويحقق أهدافها أو على الأقل جزءاً مهماً منها. اعلان علي أكبر صالحي رئيس الوكالة لليورانيوم للطاقة النووية، عن انتاج بلاده الكعكة الصفراء لليورانيوم، عشية المفاوضات في جنيف مع مجموعة الدول الخمس زائد واحد، شكل بجميع المقاييس ضربة معلم خلطت الأوراق، ووضعت المجموعة الدولية أمام الأمر الواقع. هذا النهج في التفاوض ليس جديداً على الايرانيين. منذ البداية، اعتمدوا سياسة القضم والهضم ووضع الأطراف المواجهة لهم أمام واقع لا يمكن القفز فوقه، لأنه يلغي ما سبقه. طهران في كل مفاوضاتها طبقت اسلوب حائك السجاد، الذي متى أنهى القطبة الأخيرة من الجزء الذي يعمل عليه، لا يمكن قطعها أو العبث بها، لأن النتيجة ستكون فرط كل ما جرت حياكته قبل ذلك. حياكة السجاد الايراني فنّ والمفاوضات فنّ، والتشابه بينهما كبير خصوصاً بوجود الحائك الايراني.
الآن، باتت طهران تتحكم بكامل دورة انتاج الوقود الفوري، وهي حققت اكتفاء ذاتياً في دورة الوقود. في الوقت نفسه أصبحت تملك من الأورانيوم المخصب بنسبة 3,8 بالمئة 3183 كلغ بدلاً من 1580 كلغ كانت تملكها عشية تشرين الأول عام 2009 عندما توقفت المفاوضات. جلسة أمس من المفاوضات لن تحل شيئاً. كل المطلوب منها فتح مسار المفاوضات على خطين مع مطلع العام المقبل. من الواضح أن طهران تعلمت من سياسة العصا والجزرة التي تطبق ضدها، تنفيذ سياسة متشابهة لها مع الطرف الآخر.
يعرف المفاوض الايراني أنه لا يمكن، وهو يضع مجموعة الخمسة زائد واحد أمام الكعكة الصفراء، الذهاب بعيداً في التحدي، لذلك يعرّض جدياً: متابعة المراقبة الدولية لانتاجه من الكعكة الصفراء، وفي الوقت نفسه يعمل على تقديم ضمانات لمحيطه الجغرافي مباشرة أن قوة بلاده قوةٌ لهذا المحيط. طبعاً الكلام لا يكفي خصوصاً في الحالة الايرانية، حيث أصلاً لا توجد جسور للثقة بينها وبين الآخرين من القوى الغربية والاقليمية. من الطبيعي خصوصاً في حالة الجوار الاقليمي ان تقدم الضمانات عبر الأفعال حتى يتم بناء جسور للثقة بينهما. طهران هي الطرف القوي في حالة الجوار الاقليمي وعليها تقع المسؤولية في اثبات أقوالها الايجابية في ممارسات ايجابية.
أيضاً ضمن سياسة الجزرة، تعمل طهران على تقديم الضمانات لمجموعة الخمسة زائد واحد. انتاج الكعكة الصفراء، تمّ تحت مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي كما تؤكد مستعدة لمتابعة هذا النشاط تحت المراقبة. المشكلة أن امتلاك طهران للدورة الكاملة لانتاج الوقود النووي يجعل كل الأبواب مفتوحة أمامها لانتاج الوقود النووي بالنسبة التي تريدها أي عشرين بالمئة وأكثر. عملياً، امتلك الايرانيون المعرفة الكاملة لانتاج السلاح النووي. التنفيذ لم يعد سوى مسألة قرار سياسي لا أكثر ولا أقل. هذا التحول يرفع منسوب صعوبات توجيه أي ضربة عسكرية ضدها، لأن البديل سيكون تشريع صناعة السلاح النووي دفاعاً عن نفسها. منذ الآن على العالم أن يتعامل مع هذا الواقع. اسرائيل معنية أكثر من غيرها بهذا التحول. عليها أن تعد حتى الألف قبل الدخول في مغامرة عسكرية ضد ايران. عملياً، سيقوم نوع من الستاتيكو الخطر في المنطقة. من جهة لا حرب، ومن جهة أخرى لا سلام، وفي الوقت نفسه ستتابع اسرائيل سياسية بناء المستوطنات لقضم وهضم كامل الضفة الغربية، وجعل اقامة دولة فلسطينية أمراً غير واقعي.
لو كانت القضية في دخول ايران النادي النووي فقط، كان يمكن العثور على صيغة حل لذلك، لكن المشكلة قائمة أساساً في ان لا أحد يعرف كيف يفكر الايرانيون. دائماً يخفي حائك السجاد حقيقة القطبة الأخيرة التي تظهر الصورة النهائية عن الآخرين بما فيهم عائلته، بهذا يتحكم بالعمل كاملاً، ويضعه في خدمة ما يريده، وعندما تنتهي الحياكة يطلب السعر المناسب له. الرئيس أحمدي نجاد يقول: نحن مستعدون للتعاون في مجالات الاقتصاد والسياسة والأمن الدولي والنووي ومعالجة المشاكل العالمية. بطريقة أخرى ما يقوله أحمدي يضع سجادة ايرانية تمتد من أفغانستان الى فلسطين ومن بحر القزوين الى بحر العرب مروراً بطبيعة الحال بالخليج العربي. العرض قائم أيضاً أمام الصين وروسيا لأنهما عضوان في المجموعة المفاوضة.
لغة الاقتصاد وعروضها مغرية للجميع، عروض طهران لإقامة نظام اقتصادي اقليمي يضم مجموعتي 6 و6 مكرر اي: تركيا وايران وسوريا والعراق والأردن زائد لبنان مع مجموع دول مجلس التعاون، صيغة مغرية جداً للجميع حتى لواشنطن، لأن الأمن الاقتصادي يتطلب حكماً وجود أمن سياسي والعكس صحيح. أمام هكذا طموح لا يعود أمام طهران والآخرين سوى الجمع بين الأمنيين. السؤال الكبير، هل يمكن للغرب وتحديداً واشنطن القبول بعزل اسرائيل عن هكذا منظومة اقتصادية ضخمة، علماً أن عزلها يعني حكماً استمرار الصراع المركزي وهو الفلسطيني الاسرائيلي والعربي الاسرائيلي الذي يغذي كل الصراعات بالوقود اللازم للانفجار؟. وهل يعني مثل هكذا مشروع أن طهران مستعدة للبحث رغم كل خطاباتها عن أن اسرائيل سرطان يجب اجتزازه من المنطقة، للبحث في حل يجعل مشروعاً بحجم هذا المشروع الاقتصادي الاقليمي قابلاً للولادة والحياة؟.
انتاج ايران للكعكة الصفراء، لا يتم بلا ثمن، المفاوضات التي بدأت وقد تتواصل لن تكون لقاءات أحبة. خلف كل هذه المسارات، تجري يومياً الحرب الناعمة بقوة زائد تنفيذ سياسة عقوبات قاسية. اغتيال العالم النووي الايراني في منطقة سعد آباد في طهران يؤشر الى اخطار الحرب الناعمة. طهران كما يسرب القريبون منها لن تسكت على هذه الحرب، لكنها لن تذهب فيها الى حد المواجهة المكشوفة. اغتيال العالم النووي الأخير يؤكد وجود خطة كاملة لضرب الجسم العلمي الايراني، لذلك لا يمكن لطهران الا ان ترد بقوة وقسوة لفرض التوازن.
أما بالنسبة لسياسة العقوبات، فإن منسوب معاناة الايرانيين سيرتفع يوماً بعد يوم. لكن ذلك لن يؤدي الى انفجار يهدد النظام خصوصاً اذا ما حقق نجاحات ملحوظة ومعترفا بها في الملف النووي الذي يبقى بلا أي تحفظ ملفاً قومياً.
من الطبيعي جداً في المفاوضات بالنار حصول مفاجآت بعضها دامٍ. لكن أيضاً من الواضح جداً أن كل المواجهات ستجري دائماً على حافة الهاوية دون الانزلاق عنها نحو المجهول لأن لا مصلحة لأحد في المدى المنظور الدخول في تجربة غير محدودة وغير محددة النتائج.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.