سريلانكا قد لا تعني للبنانيين وللعرب، أكثر من جزيرة تصدر أكبر عدد من الخادمات الفقيرات اللواتي يتحوّل معظمهن الى ما يشبه العبيد لسنوات، نتيجة لمعاملتهن بممارسات مليئة بعقد الفوقية وحتى العنصرية.
لكن سريلانكا الجزيرة الخضراء أكثر من مصدّر للخادمات. من دون مبالغة، إنها تشكل مدرسة حقيقية للتواضع والنشاط، والأهم من ذلك كله، الالتزام بالدولة نظاماً وسلوكاً وممارسة يومية، لشعب دخلت الثقافة المدينية عقله وقلبه منذ عقود طويلة.
حجة اللبنانيين أنهم بالكاد خرجوا من الحرب الأهلية التي طالت 17 عاماً، ما يوجب الكثير من الصبر حتى يعودوا الى الدولة، تسقط في الواقع، فوراً أمام سريلانكا، الجزيرة الخضراء، التي تعب البريطانيون بعد 150 سنة من استعمارها من هدوء سكانها وسلامهم.
هذه الجزيرة خرجت قبل عام واحد من آتون 30 سنة من الحرب الأهلية المدمّرة. هذه الحرب التي أفقرتها وجوعت قسماً كبيراً من سكانها، وشتّتهم في أربع رياح الأرض، كما حرمتهم من الاستثمارات الداخلية والأجنبية، لأن أصحاب رؤوس الأموال لا يستثمرون إلا في البلاد التي تعرف الأمن والاستقرار، وحيث احتمالات وقوع هزات سياسية فيها ضئيلة جداً، سواء من التي تشعل الحرب أو تُعطّل الدولة.
حالياً، تعيش سريلانكا موجة حقيقية من الاستثمارات الأجنبية، وهي بلا شك تبدو مستعدة لذلك. الجزيرة التي أطلق عليها الانكليز اسم جزيرة الأحلام، تكاد تكون كذلك اليوم.
على مساحتها التي تبلغ ست مرات مساحة لبنان، تمتد مزارع الشاي المتناسقة وأشجار المطاط وحقول الأرز ومحميات التوابل التي يُصنع منها مختلف الزيوت والأعشاب المستخدمة في الطب الآخر. وهنا يقال إن لبنانياً ناشطاً في هذا المجال عرف باكراً أهمية هذه المزارع، فاشترى واحدة منها ليستثمرها في تجارته المربحة.
هذا كله، من غنى الطبيعة وفعلها. لكن لا شيء، بلا الإنسان. فالسريلانكي الذي نعتبره متخلفاً، يبدو أكثر تقدماً من الأوروبيين. خلال جولة لنا على طول 280 كيلومتراً، من أصل 420 كيلومتراً، وهو طول الجزيرة، لا توجد ورقة ولا عقب سيجارة على الارض.
أحد اللبنانيين الظرفاء علّل هذه النظافة بقوله: أصلاً لا يوجد لديهم ما يرمونه، الجوع يأكلهم. لا علاقة لذلك بالواقع، وإلا ما معنى عدم وجود قشرة موز على الطرق؟ حتى الطفل، كما يبدو، يتعلم من أهله ألا يرمي قشرة على الارض.
أما قشر جوز الهند، الذي هو نوعان، فيستخدم في تحديد الممرات والحدائق حتى لا يتحول الى نفايات على الطرق.
أهم ما يقوم به السريلانكي، وهو الذي يتمتع بوجود أربعة أنهار، أحدها يكاد يكون بحراً صغيراً لاتساعه وغناه، أنه يجتهد في عدم إهدار المياه. وأكثر من ذلك، انه يتجنب تلويثها. حتى في الفنادق الفخمة يُطلب من السيّاح الانتباه الى عدم تلويث المياه، حتى من أعقاب السجائر. أحد السائحين، رمى عقب سيجارته في الحديقة، تقدّم سريلانكي لا علاقة له بالمكان ومن دون أن يوجه أي ملاحظة، التقط عقب السيجارة ورماه في سلة المهملات.
واحدة من أجمل حدائق البوتانيك في العالم، مساحتها عشرات الهكتارات المربعة، الغنية بجميع أنواع الأزهار والأشجار الاستوائية، ومنها من أندر أنواع أزهار الاوركيديا وأشجار البامبو لا حارس فيها لانه لا حاجة للزائرين اليه.
السريلانكيون يحترمون كل زهرة وكل شجرة وكل عشبة.
بلا مبالغة، لا يسير طفل على العشب الأخضر. الجميع يسيرون في الممرات المخصصة، ويكتفون بالنظر والتمتع بهذه الثروة الاستثنائية من الطبيعة وجهد الإنسان. لولا التربية المدينية التي تبدأ من داخل الأسرة وصولاً الى النظام العام لما تم ذلك.
سنة واحدة مرّت على السلام الذي صنعه اتفاق القوى الإقليمية الكبرى، الهند والصين واليابان، على ضرورة إنهاء الحرب الأهلية في الجزيرة لأنها بدأت تهدد بعبور المحيط الى الدول المحيطة بها. الثمن كان ضخماً، لأن عشرات الآلاف سقطوا بين ليلة وضحاها. أيضاً مثل كل الدول الخارجة من الحروب الأهلية، فإن التسويات تكون الحاضرة الكبيرة، يمكن الحديث طويلاً عن سلبيات النظام الذي وُلد بعد الحرب.
تكفي مشاهدة صور الرئيس، الذي يعتقد انه صانع الانتصار، والمنتشرة في كل زاوية من زوايا البلاد، حتى يعرف أي زائر أن سريلانكا ما زالت جزءاً من العالم الثالث. وإذا أضيف الى ذلك كله، التقاسم الحاصل بين القوى المشكلة للنظام، فإن الحديث يطول عن السلبيات ويقل عن الايجابيات.
رغم ذلك كله، على الأقل يوجد التزام واضح من الشعب ومن القوى السياسية بالدولة. لأن مشروع الدولة وحده يفتح الطريق الى المستقبل الواعد. الأمل بالدولة وسيرورتها وحده يدفع الناس الى العمل والأمل، رغم هذا التقاسم بين القوى على السلطة، والذي لا يخفي السريلانكيون غضبهم وألمهم منه، لأنهم يرون أن أبواب المستقبل والأمل مفتوحة أمامهم على مصاريعها.
أما نحن في لبنان، فكلما فُتح باب على المستقبل أُقفل بابان، لأن الالتزام بالدولة ومشروعها هو الغائب الكبير. وحده الخضوع لـالباب العالي هو الحاضر الدائم. طبعاً هذا كله لا يعفي اللبنانيين. غياب الثقافة المدينية عن حياتهم اليومية كان وما زال يحرمهم أكبر الأسلحة وأهمها من أجل التغيير وبناء الدولة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.