أخيراً وقع ما كان يجب أن يقع في مصر مع تحول الغضب الشعبي الى ثورة. تنحي حسني مبارك عن الرئاسة لحساب المؤسسة العسكرية المصرية، يقلب صفحة من تاريخ مصر، ويفتح فصلاً جديداً يعادل في أهميته وتردداته ظهور محمد علي باشا من جهة، وجمال عبد الناصر من جهة أخرى. الفارق بين ما حصل ويحصل، أن الثورة الشعبية الأولى في تاريخ مصر والموطن العربي انها بلا قائد ولا اسم، لأنها من فعل مجهولين معلومين، لا ينتمون إلا الى مصر.
ما حدث ويحدث في مصر، صناعة مصرية مئة بالمئة. لم يتوقع أحد هذه الثورة، لذلك لا يستطيع أحد ادعاء أبوتها أو وصايتها. تراكمات أربعة عقود من السياسات الخاطئة التي وقعت أحياناً في الخطيئة، أو الغائبة عن الوعي التي أنتجت تغييباً لموقع مصر ودورها في الوطن العربي كـراسمة للمسارات والفاعلة في الشرق الأوسط والمتحركة دولياً، والاقتصادية التي زرعت الأرانب والقطط السمان وصولاً الى الفيلة والتماسيح والمليارديرية الذين سرقوا أرض مصر وصناعاتها باسم التنمية، والأمنية التي باسم الحرب ضد الأصولية جرى كتم الأصوات ووأد الأفكار ونشر الخوف. فرق كبير بين أن يكون شعب مصر مؤمن بالله ومتدين، وبين أن يحشر في خانة الأصولية والارهاب. هذه التراكمات هي التي صنعت الزلزال القاري في مصر.
الاخوان المسلمون موجودون على الأرض. لا أحد ينفي وجودهم. لكن الاخوان أعلنوا أنهم لا يريدون وضع يدهم على السلطة، لأنهم يعرفون انهم قوة دفع لا حزب سلطة. من الآن وحتى يصبحوا مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا يجب المرور في تجربة حزب العدالة مع الجيش والمجتمع التركي، وهذا يتطلب سنوات ان لم يكن عقوداً.
لم يتوقع أحد هذه الثورة، لأن شباب مصر الصاعد من عصر المعلوماتية والاتصالات المباشرة، من دون أن يخرج من جلده وانتمائه الوطني، هو الذي أطلق الربيع من ميدان التحرير. الأحزاب الهامشية والمهمشة أو المغيبة، لم تكن قادرة على صناعة الثورة. أكثر من ذلك تبدو هذه الأحزاب والقوى عاجزة ومترددة في اللحاق بالشباب، لذلك تعثرت في خطواتها وتخبطت في قراراتها. الشباب المدني والعسكري يصنع التاريخ ويرسم المستقبل. الآخرون يلحقون أو يلتحقون بالشباب متأخرين في أكثر الأحيان، لأنهم اختاروا ويختارون القرار المطلوب في الوقت غير المناسب.
وسط هذه الثورة، أثبت الجيش المصري أنه المؤسسة الوطنية التي مهما قيل عنها، حافظت في أدق الأوقات على أمن مصر الوطني من دون أن تنزلق وتُخدع لتمسك بكرة النار، بدلاً من أن تعمل على ابعادها عن مرمى الشعب. عرفت المؤسسة العسكرية كيف تمسك بالتطورات، حتى يكون قرارها جامعاً في وقت واحد لمصالح مصر وأمنها الوطني من جهة وتلبية المطالب الشعبية المشروعة في وقت واحد. اختارت القيادة العسكرية القرار المناسب في الوقت المناسب. لو لم تمسك المؤسسة العسكرية بالقرار وتفرض التغيير في قمة الهرم، كانت مصر معرضة للدخول في عين الاعصار. كل يوم جديد من الثورة كان سيعني تجذيراً حقيقياً للمطالب وللتدخلات. الثورة التي بدأت بمطالب محدودة، رفعت سقف مطالبها يوماً بعد يوم. حالياً مطالب التغيير امتدت الى كل مفاصل النظام. ثورة مصر ذكرت الكثيرين في الغرب بالثورة الفرنسية التي أنتجت كل يوم من عمرها قيادات تاريخية ومطالب متصاعدة وثورية.
مطالب الشباب وامساك المؤسسة العسكرية بالقرار يطرح سؤالاً حقيقياً ومستقبلياً. ماذا ستكون صيغة النظام المقبل؟ عسكري؟ مدني؟ أم صيغة تركية معدّلة أي مدني حيث الجيش يكون ضامنه لفترة طويلة تنتهي مع تحول الديموقراطية الى ثقافة وطنية وشعبية قبل أن تكون مؤسسات؟.
من المبكر جداً الجزم. لكن لا يمكن للشباب أن يخرجوا من الصورة ومن مستقبل صناعة مصر، كما طلب منهم عمر سليمان على قاعدة قمتم بواجبكم عودوا الى منازلكم آمنين. من صنع الثورة له الحق أن يشارك في صناعة النظام الجديد. المطالب واضحة ومحددة. انتخابات نزيهة وشفافة من دون شروط، ورئاسية بلا عوائق وقيود تلغي تشكيل الأحزاب وتمتعها بالشرعية فوراً واعلام حر فعلاً لا قولاً.
كل هذه المطالب وغيرها تؤكد ضرورة العمل على بناء المجتمع المدني من القاعدة الى القمة. حان الوقت بعد ستين عاماً على ثورة جمال عبد الناصر ومن ورثها وجعلها على صورته، بناء هذا المجتمع كمقدمة ضرورية وملحة لبناء النظام المدني الديموقراطي.
من الطبيعي أن اتمام وإنجاح هذه العملية لن ينتهي بين ليلة وضحاها. البناء من الصفر يتطلب مهلة حقيقية لأن كل ما كان حتى الآن مجرد صورة بلا مضمون. المؤسسات التي قامت ونشأت وهرمت كانت دائماً في خدمة النظام. الجيش كمؤسسة وطنية يمكنه لعب الضامن والراعي لهذا المسار. الشباب أعلنوا قبولهم للجيش بهذا الدور. هذا الحل يريح الجميع. مصر تبقى مستقرة وآمنة وعملية البناء تكون مضمونة وغير انقلابية. لكن المرحلة الانتقالية ستكون طويلة وصعبة.
العالم عاش حالة قلق وترقب تصل الى حالة الخوف. سقوط مصر في أتون الثورة من دون معرفة حدود تغيراتها وارتداداتها، أربك الجميع. لكن من الواضح أن الغرب وتحديداً واشنطن اختاروا لأول مرة أن يلتزموا بالمبادئ التي كانوا يتاجرون بها في السابق، لأن لهم مصلحة في ترتيب الأوضاع في مصر والمنطقة بسرعة.
الثورة في مصر حدث في داخل كل بيت عربي.
بعد مصر.. من؟.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.