عرس الدم، مستمر في ليبيا. الشعب الليبي دفع وسيدفع ثمن حريته الكثير من التضحيات. قد يضطر هذا الشعب للحصول على حريته الى ان يغرق السيف في الدم. نظام معمر القذافي فريد من نوعه، الشعارات الثورية أكثر من أن تُحصى والممارسات الثورية أقل من أن تُذكر أو يتذكّرها أحد. الربيع المعطر بالياسمين، الذي هبّ من مصر، لا يمكن إلا أن يعصف بالجماهيرية العظمى. ليست هي المرة الأولى التي ينتفض فيها الليبيون. قاموا بذلك مرات عدة. تكفي مجزرة سجن بنغازي عام 1996 التي سقط خلالها بين 1200 و1600 سجين سياسي برصاص السجانين، لتأكيد توق الليبيين للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
لم يتأخر الشعب الليبي بالثورة، كان يجب أن تنضج الظروف والأسباب التي تحفز الناس العاديين على الصمود والتصدي والتضحية. تماماً كما حصل في تونس ومصر ويحصل في اليمن والجزائر والبحرين. تعدّدت الأسباب بتعدّد الأهداف. من الواضح جداً ان الظروف المحلية في كل دولة تفرض المخارج المختلفة. سرعة الحسم في مصر وتونس شعبياً، تعود إلى اختلاف النظم والوسائل والمجتمعات. لا يمكن وضع مقاييس واحدة لأشكال مختلفة من الانتفاضات والثورات. لكن يمكن من خلال تسلسل الثورات والانتفاضات، وضع أطر عامة تشكل مدخلاً حقيقياً لقراءة المستقبل. من ذلك:
* جرى طوال العقود الأربعة الأخيرة وبنسب متفاوتة، سوء في توزيع الدخل الوطني والقومي على مختلف الطبقات والجهات. لا توجد تنمية متوازنة تأخذ في الاعتبار العدالة في الحقوق والواجبات. الخلل فاضح ومؤلم بين الجهات أو المحافظات أو الأقاليم. أحياناً تتداخل الولاءات مع الانتماءات. كل ذلك ولُد أحقاداً لا يمكن وأدها طويلاً. لذا كان يجب أن تنفجر هذه الأحقاد، بعدما شكلت خطوط زلازل داخل كل دولة على حدة.
* تم تهميش شرائح اجتماعية واسعة عن القرار ليس السياسي فقط وإنما الاقتصادي في زمن لم تعد توجد فيه أسرار والتواصل فيه بين أعمق هذه المجتمعات والعالم مفتوح على أربع رياح الأرض.
* نظام الرشوات الاجتماعية ونظام الاقتصاد الريعي نجحا في امتصاص الرفض الشعبي للخلل التنموي وفي صياغة ولاءات استخدمت بقوة وكثافة في الشارع لضرب أي حركة معارضة أو تذمر. لكنهما لم ينجحا مطلقاً في بناء إلتفاف شعبي حقيقي فكيف بالوحدة الشعبية. شراء الشعوب مثل شراء ذمم الأفراد، تبقى مفاعيله مؤقتة.
*تحويل قضية فلسطين إلى ملف يتم الاستقواء فيه في وجه الآخرين لم يعد كافياً لتشكيل حصانة ضد رياح المطالب الشعبية. ربما كان القذافي عميد الممانعين والمتصدين باسم فلسطين. لكن تراجعه عن كل شعاراته أثبت ان تحويله قضية فلسطين، ملفاً للاستقواء به في فترات معينة لم يصنع له شعبية في الداخل الليبي ولا أبقى له نصيراً على امتداد الوطن العربي، رغم كل الأموال التي صرفها ووزعها.
*ان الجيوش العربية التي صنعت إلى حد كبير في دول عربية مختلفة الانقلابات والثورة، جرى تهميشها، إما لأن وجودها قوية مربك بعد تحول الأنظمة إلى الأمن تحت مسميات مختلفة للمحافظة على نفسها وإما لأن تحرير فلسطين لم يعد في أفضل الأوصاف ملحاً. لذلك عندما هبّت عاصفة الربيع، لم تعصف بالجيوش. لا بل جرت المطالبة الشعبية أو على الأقل القبول الشعبي بدور لها في حماية الشعوب من أجهزة الأمن المختلفة الأسماء. من الغريب بعد أربعة عقود أو أكثر أن تعود المؤسسة العسكرية العربية إلى لعب دور مقبول من الشعوب. السؤال هل تقبل هذه الجيوش بأن تلعب دور الضامن للتغيير أم انها ستحاول مرة أخرى الاستئثار بالسلطة لتخلق ردّة فعل شعبية لاحقاً لأنه لم يعد ممكناً تدجين الشباب الذي ثار فقط من أجل الحرية والعدالة والديموقراطية، دون أي ارتباطات ايديولوجية.
*ان الفزاعة التي أخاف بها القذافي وغيره الشعوب العربية والعالم وهي الاخوان المسلمين أو خطر الإسلاميين وقيام جمهوريات إسلامية، لم يعد حجة له بل عليه، القذافي الذي مزّق اذاننا بشعاره طز بأميركا لم يجد ما يقوله سوى ان الأميركيين يفضلونه على الإسلاميين. لن يأخذ الإسلاميون السلطة لأنهم لم يصنعوا عاصفة الربيع، لقد لحقوا بها. هذا ثابت في مصر وتونس وليبيا. إذا استطاع الإسلاميون وتحديداً الاخوان المسلمين استيعاب الدروس الماضية والتجارب القائمة يستطيعون أن يكونوا محركاً شرعياً في التغيير، أما محاولة قنص الثورة ومن ثم الأنظمة فإنّ النتيجة لن تكون سوى مزيد من المواجهات. ما يعزز ذلك ان المجتمع المدني أفرز شرائح واسعة من الشباب القومي وهؤلاء قادرون على تعزيز مواقعهم وأدوارهم بمزيد من التنظيم وبناء الأحزاب.
مجرد أن يهدد سيف الإسلام بالحرب الأهلية والتقسيم، وهو ليس له موقع سوى طموحه لوراثة والده، يعني ان التغيير قادم في ليبيا ولو كانت كلفته باهظة جداً، مجرد أن ينتهي نظام القذافي يعني ان عاصفة الربيع واعدة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.