الارتباك واضح جداً في مواقف الغرب والعرب من الثورة في ليبيا. الحسم غائب لأن الخيارات صعبة جداً ومكلفة كثيراً. هذا الارتباك هو الذي يسمح لقوات العقيد معمر القذافي التقدم باتجاه بنغازي لسحق الثورة وتصفية الثوار. يوجد خلل كبير في موازين القوى بين قوات القذافي وأبنائه وبين شباب ثورة 17 فبراير. تتمتع الأولى بالسلاح من طيران ودبابات وصواريخ والتنظيم ومجموعات يصل عددها حسب التقديرات الموضوعية الى أربعة آلاف عنصر من المرتزقة المدربين جيداً الذين خبروا الحروب خصوصاً وانهم جمعوا من السودان (على الأرجح دارفور) والتشاد والصحراء الغربية، والأهم من كل ذلك المال عصب الحرب. القذافي حوّل كل أموال النفط الى خزانته على أساس أنه هو الثورة والثوار والعكس صحيح. في حين أن الثوار يفتقدون كل شيء، السلاح والتنظيم والمال، وان كانوا يمتلكون الإرادة والشجاعة.
الليبيّون لم يثوروا لأنهم جائعون. معدل الدخل السنوي لليبي 12 الف دولار، ما كان ينقصهم الحرية والدولة. العقيد القذافي اخترع نظاماً فريداً من نوعه، يتبين يوماً بعد يوم انه لم يكن أكثر من تأطير للقبائل الليبية في لجان شعبية، تملك عملياً نوعاً من اللامركزية في المساحة المحدودة التي تعيش فيها، اما الباقي وهو النفط والغاز والسلاح فمتروك للقذافي وأولاده، لذلك لا يمكن تحديد ثروته الشخصية من أموال ليبيا. لحماية هذا النظام، زرع القذافي في كل قبيلة الخوف من القبيلة المجاورة لها ثم ثبّت الخط الوهمي القائم بين الشرق والغرب وحوّله الى حدود تفصل بين الجبهتين الى درجة الوهم بأنه يشكل مع قبيلته الضامن لسلامة قبائل الغرب من قبائل الشرق والسكان المدينيين في بنغازي وغيرها من المدن الصغيرة. لا يمكن العثور على صيغة فرّق تسد، أكثر حضوراً وعمقاً في مجتمع من المجتمعات مثل ليبيا.
القذافي ألغى الدولة لمصلحة القبيلة، وفكك الجيش لمصلحة الكتائب العسكرية برئاسة أولاده والقذاذفة والملتزمين به من القبائل في الغرب، خصوصاً المقارحة.
نجاح العقيد القذافي في شراء براءته من جريمة لوكربي وباقي نشاطاته الارهابية باسم الثورة والثورية رسّخ إيمانه بأنه قادر على رشوة الغرب كله بالنفط والمال. واشنطن وروما وباريس ولندن مسؤولة مسؤولية مباشرة عن استمرار القذافي في السلطة وفي خنق الشعب الليبي الى الدرجة التي فضّل فيها الحرب على الاستقرار، لذلك ما يجري في ليبيا من استباحة مكشوفة للشعب الليبي وصولاً الى ارتكاب جرائم حرب يجب ألا يفاجئ هذه العواصم ولا التباكي على الضحايا الليبيين.
ليس أمام الغرب الكثير من الخيارات. عليه أن يحسم موقفه بسرعة، كلما فعل ذلك، خفّت الخسائر والتضحيات، الثوار وحدهم لن يستطيعوا هزيمة كتائب القذافي ومرتزقته. لذلك أمام العواصم الغربية إما:
التسليم الكامل للعقيد القذافي بسحق الثورة، بحجة أن كلفة دعم الثوار كبيرة جداً، وأن التدخل غير المباشر تكرار للخطأ الخطيئة في العراق، فالغرب لن يتحمل حرباً ثالثة على مثال العراق.
لكن هذا الغرب ينسى انه إذا بقي القذافي في السلطة فإنه سيبتزه ويعصره حتى يستجديه. من الآن يقول القذافي: لدي ثلاثة أسلحة:
النفط والغاز. كل عقد سيوقعه القذافي مع دولة غربية سيجعلها تدفع ثمنه من كرامتها ومبادئها. كل جرائم القذافي ستتحول الى دروس في فن البقاء الثوري في مواجهة الغرب الاستعماري.
القاعدة. هذا السلاح ثمين جداً بيد القذافي وهو قادر على تهديد أي عاصمة غربية به؛ إذا ما بقي في طرابلس فإنه كلما أراد طلباً عرض لائحة، هذا ليس بجديد، انه فن له تشريعاته تحت باب المواجهة والصمود والتصدي.
الهجرة غير الشرعية وهي خطيرة جداً بالنسبة لكل دول الضفة الشمالية من حوض البحر المتوسط. القذافي قادر على التهديد بها متى شاء وكيفما شاء، وقبض ثمنها مزيداً من التنازلات لـملك ملوك افريقيا.
أما العرب المنقسمون كالعادة على أنفسهم بين معارض ومدين وصامت مؤيد، فإنهم يؤجلون حسم الغرب لموقفه لكنهم لا يلغونه، أخطر ما في موقف المؤيدين للقذافي تحت لافتة محاربة التدخل الخارجي، أنهم بصمتهم لن يقيموا جداراً في وجه عاصفة الربيع التي تهبّ على المنطقة. عندما يختار الليبيون الثورة طلباً للحرية والكرامة وليس للرغيف وهم يعلمون أن كلفة ثورتهم ضخمة جداً، معنى ذلك أن جرس التغيير يدق بقوة.
المأساة الضخمة في كل ما يجري في ليبيا أن يصبح التدخل الخارجي مطلوباً من الشعوب العربية، رغم معرفتهم بأن هذا التدخل هو استدعاء خطر يهدد بعودة الاستعمار أو على الأقل الوصاية الغربية.
دعوة العالم، خصوصاً واشنطن والدول الأوروبية منه للتدخل في ليبيا دعماً للثوار، يجب الا تعني مطلقاً دعوة لتشكيل عاصفة صحراء أخرى. يجب العثور على صيغة مقبولة تسمح للثوار الليبيين بالصمود وتنظيم صفوفهم من جهة، وأن يفهم القذافي انه من غير المقبول استمراره في السلطة مهما بلغت تهديداته ورشواته واغراءاته التي وصلت الى حد الاعتراف بإسرائيل.
مهما طالت فترة عدم اليقين التي تواجه الغرب بسبب عاصفة الربيع التي تهبّ على العالم العربي، فإن على الغرب، خصوصاً واشنطن، اليقين، أنه بعد العاصفة.. الربيع.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.