صورتان من مصر، دخلتا التاريخ والذاكرة الشعبية العربية. الأولى شباب 25 يناير وهم يتصدون بصدورهم العارية لقوافل البلطجية في ميدان التحرير، فيربحون المواجهة ويتحول الميدان الى مساحة مفتوحة للثورة والتغيير. الثانية جمال وعلاء مبارك وهما ينضمان الى مجموعات السلطة والمال في سجن طرة بعد اختباء الرئيس المخلوع حسني مبارك بحجة المرض وسنّه، رغم أنه طوال سنوات استثمر هذه الحجة لإصدار قرارات أضاعت ثروات مصر واستنزفت موقعها ودورها في المنطقة والعالم بحجة أنه الحكيم وأب جميع المصريين.
ليست هي المرة الأولى التي تقدم فيها مصر صوراً تصنع التاريخ. سبق للقاهرة أن قدمت محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا وهما يصيغان رؤية شجاعة لمصر حديثة ولمشروع وحدوي للمنطقة مهما كانت الملاحظات سلبية بحقه، إلا أنه بلا شك يبقى مشروعاً نهضوياً مدماكه الأساسي الخلاص من هيمنة الخارج العثماني ومن ثم الأوروبي، فكانت النتيجة انضمام الأوروبي الى العثماني لتحجيم محمد علي باشا ليس حباً بالسلطنة العثمانية وإنما استعداداً لتفكيكها ووراثتها وهو ما حصل لاحقاً.
أيضاً، لا يمكن ذكر مصر، إلا والصورة الكبرى التي قدمتها عام 1954 1956، عندما تحوّل الانقلاب الذي وقع عام 1952 بقيادة الضباط الأحرار الى ثورة عظيمة بقيادة جمال عبدالناصر. أيضاً رغم كل الملاحظات والاتهامات التي سيقت ضد الثورة وضد جمال عبدالناصر فإن أمراً مؤكداً ظهر منذ اللحظة الأولى، أن بعضها كان كلام حق يراد به باطل. الهدف كان ضرب الثورة التي حملت مشروعاً حقيقياً لتوحيد العرب ودفعهم الى الأمام أمة تمتلك كل شيء من الثروات المادية والرجال والآمال والطموحات والاستعداد للتضحيات. لقد جرى اغتيال ثورة جمال عبدالناصر من الداخل والخارج معاً، حتى إذا جاء أنور السادات وبعده حسني مبارك، تم جرف كل الحياة السياسية في مصر. اليوم ظهرت زهرة من قلب ميدان التحرير أكبر من كل حقول الأزهار الاصطناعية التي نشرت باسم التحديث. هذه الزهرة بسيطة جداً في شكلها ولونها لكنها تختصر ستة عقود كاملة لأنها تؤكد أن قائداً بحجم جمال عبدالناصر مات مديوناً للدولة المصرية بمبلغ خمسة آلاف دولار في حين أن ثروات عائلة حسني مبارك وأزلامه، المنهوبة من أرض مصر تزيد على مائتي مليار دولار. لقد تعاملت هذه الطبقة المتكئة على الأب الحكيم مع مصر وكأنها أرض بلا شعب، فتوزعوها في ما بينهم وما زاد عنهم أهدوه للطامعين بمصر وما أكثرهم.
في قلب هذه الصور الخارجة من حركة الشعب المصري وطموحاته، يوجد جانب مأسوي يمتد من مصر الى كامل المنطقة العربية والإسلامية وحتى الإفريقية.
المأساة أن شعوبنا لا تتعلم من ماضيها. بدلاً من أن تزرع هذا الماضي وتحوّله الى حقول منتجة ترفع منسوب آمالها وطموحاتها، فإنها تئدها. الدليل أن شعوبنا كلها لم تتعلم من تجربة محمد علي في تحديث مصر وفي أن توحيد المنطقة وضم أو جمع بلاد الشام الى مصر يعني ضمان قيام دولة قوية يحسب لها ألف حساب. أيضاً لم تتعلم شعوبنا من اللحظات والمراحل التاريخية بكل حلوها ومرّها من تجربة مصر الناصرية. كل ما فعلته هذه الشعوب أنها غرقت في لعبة التقسيم والفرقة حتى خرج العرب من كل الحسابات الإقليمية والدولية، وتولت طهران وتل أبيب وأنقرة إدارة مثلث المنطقة بعد أن خرجت مصر من دورها. الآن، بعد ثورة 25 يناير تعود مصر الى موقعها ببطء وثبات وتصميم، متى اكتملت العودة تعود مصر صانعة للمسارات العربية والأفريقية. أيضاً وهو الأسوأ، إن الديكتاتوريين وأنظمتهم لم ولن يتعظوا بمصير حسني مبارك وولديه جمال وعلاء وكل زبانيته من السارقين والمتسلطين على الشعب المصري. لذلك يتابعون رحلاتهم نحو نهايات مرسومة لهم مثل القدر الذي لا مهرب منه. لا أحد من هؤلاء الديكتاتوريين يستوعب أن حركة الشعوب تغيرت، وحركة المجتمع الدولي تغيرت، وأن الأرض كلها تحولت الى قرية صغيرة لا تعرف الأسرار ولا يمكن حجب صورة واحدة لرجل يئن من اعتداء رجل أمن عليه فكيف شعوب بكاملها؟
أسئلة كثيرة تجتاح مختلف الساحات والميادين العربية والأفريقية والشرق أوسطية ومنها: لماذا لا يتعلم الديكتاتوريون من مصير أسلافهم ماضياً وحاضراً؟ لماذا يصرون على الالتصاق بالسلطة حتى اللحظة الأخيرة من وجودهم؟ لماذا يرون في معارضة الملايين لهم مجرد احتجاجات من أقلية لا قيمة لها، في حين أن دعم المنتفعين والمتسلقين أكثرية يجب المراهنة على ولائها حتى الرمق الأخير؟ لماذا لا يرون في نهاية زين العابدين بن علي وزوجته وعائلتيهما وحسني مبارك وعائلته وأعوانه درساً مجانياً لهم في المصير والتاريخ؟ لماذا لا يرتعبون ليستفيقوا ويعوا وهم يشاهدون لوران غباغبو وهو يمسح عرقه بقميصه أمام الجنود الهازئين به وبزوجته الملتصقة بسريرها وهي ترتجف رعباً؟
لماذا يجب أن نهرم أجيالاً بعد أجيال حتى تصل هذه اللحظة التاريخية التي تتغير فيها الأحوال، لتكتب بعدها صفحات جديدة واعدة بمستقبل أفضل؟
لماذا لا يترك الديكتاتوريون لشعوبهم فرصة ولادة فجر جديد غير مضمخ بدمائهم رغم انه مهما طالت مقاومة هؤلاء، فإن.. بعد الليل نهار!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.