مضى الربيع، ولم يزهر تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، في تأليف حكومة الأكثرية الجديدة. لا الانقلاب الدستوري أنتج أكثر من هذه الأكثرية الجديدة المفكّكة رغم كل مظاهر الوحدة فيها. ولا انحياز الوسط نفع أكثر من إنجاز الانقلاب، والوقوف أمام إشارات حمراء على مسار التشكيل والعمل لفتح الطرقات أمام أزمات اقتصادية ومعيشية تزداد مخاطرها يومياً.
النائب وليد جنبلاط، عاد من دمشق بعد لقائه الرئيس بشار الأسد، بموافقة الأخير على التعجيل بتشكيل الحكومة اللبنانية. إذاً، مسؤولية التعطيل تقع في الرابية والضاحية معاً. بعد هذه التوصية من الأسد، هل يستمر التعطيل ولماذا؟
المشكلة ليست فقط في الحقائب والأسماء. ليس أكثر من المستوزرين في البلد. العقدة على طاقين كما يُقال: الأول: إن أي حكومة ستُشكل لن تكون حكومة مواجهة ولا توافقية. في الحالتين الرئيس ميقاتي، خاسر لأنه وهو الذي يقول بأنه وسطي لن يستطيع الخروج من العرس بحكومة توافقية تسمح له بالعمل الذي يفتح أمامه السكة نحو زعامة دائمة من طرابلس إلى بيروت، ويستطيع من خلالها المحافظة على مكانته الاقليمية والدولية في قطاع الأعمال. ميقاتي يعرف جيداً أنّ حركته السياسية تحت المتابعة والرصد الاقليمي والدولي الدائم. ماذا ينفع ميقاتي، إذا ربح تشكيل الحكومة وخسر مستقبله؟
أما حزب الله والجنرال عون، فإنّ عدم تشكيل حكومة مواجهة مدموغة مئة بالمئة ببصماتهما، يكون البقاء في الفراغ الحالي أهون بكثير. كلاهما يعرفان الآن أكثر من أي وقت مضى أنه حتى ولو قَبِلَ الرئيس المكلف فرضاً بتشكيل مثل هذه الحكومة وهو مستحيل عملياً، فإنّ مسؤوليتهما ستكون كبيرة جداً في وضع لبنان كله أمام منزلق إجراءات سياسية ودولية خطيرة على مستقبل لبنان كله وليس حاضره. هذا الإدراك لخطورة الانزلاق نحو الهاوية بفعل اختيار المواجهة، يُعرقل التقدم مع محاولة رمي كرة التعطيل مرة على الرئيس ميشال سليمان، ومرة أخرى على الرئيس ميقاتي، ومرّات عدّة على عاتق الولايات المتحدة الأميركية.
الطوق الثاني، وصية الرئيس الأسد للنائب وليد جنبلاط، تؤكد أنّ دمشق حاضرة مئة بالمئة في المسارات اللبنانية. السؤال: إذا لم يسارع حزب الله ومعه الرئيس نبيه برّي وحليفهما الجنرال ميشال عون، في تشكيل الحكومة العتيدة متجاوزين كل التحفّظات والمطالب، معنى ذلك أنهم لا يعملون كما يجب بوصية الأسد. وهذا كله يشكل تحولاً خطيراً يؤكد إما على العجز الكامل من جانب الانقلابيين أو أنهم حذرون جداً في تعاملهم مع الوصية، لأن مفاعيل الربيع مستمرّة.
هذا الحذر يقود حُكماً للإضاءة على مواقف لبنانية وفلسطينية أكثر حذراً لأنها نتاج ميداني مهم جداً إلى درجة كبيرة. في ذكرى الخامس من حزيران، حزب الله شارك مباشرة في ضبط الأوضاع في الجنوب، خصوصاً بعد أن وضع الجيش اللبناني نفسه أمام التعرّض لهجوم إسرائيلي على كل مواقعه إذا وقعت مواجهة على الحدود. لا الجيش يريد هذه المواجهة وحزب الله تفاداها لأنه إذا ردّ دخل في مواجهة عسكرية غير محسوبة وإذا انكفأ وصمت سيسيء جداً لموقعه كمقاومة دائمة الجاهزية. وهذا كله يؤكد أن لـحزب الله حسابات لبنانية خارجة من معرفته الكاملة بنبض أهل الجنوب ووجهة بوصلة مواقفهم من أي حرب لا تكون لأجلهم ولأرضهم فقط لا غير.
أما الفلسطينيون على مختلف فصائلهم، فإنهم بقرارهم الواقعي بالتضامن والتكافل مع اللبنانيين مواطنين وجيشاً ومقاومة، أثبتوا وعياً متنامياً بأنّ مصلحتهم من مصلحة لبنان والعكس صحيح وليس في مكان آخر. أما فلسطينيو سوريا، فإنّ الانتفاضة التي قاموا بها في مخيم اليرموك هي حلقة من ثورات الربيع العربية تحمل كل خصوصية الوضع الفلسطيني. لا شك أن ثورة الشباب في مخيم اليرموك هي ضدّ استثمار وطنيتهم والتزامهم الحقيقي بفلسطين أرضاً وقضية في سوق مقايضات أصبحت ممجوجة لكثرة تكرارها طوال العقود الماضية. الانتفاضة تعادل في أهميتها انطلاقة الرصاصة الأولى للمقاومة التي قادها وفجّرها الرئيس الشهيد ياسر عرفات.
لأول مرّة يكتب الفلسطينيون بدمائهم حبهم لفلسطين من جهة وإرادتهم من جهة أخرى بأن يكونوا هم صانعي حاضرهم ومستقبلهم وتاريخهم من أجل العودة، لا أن تكون العودة جسراً تعبره الأنظمة العربية لتثبيت مواقعها الداخلية والاقليمية والدولية. هذه هي بداية ثورة الربيع الفلسطينية التي بدأت وستستمر، خصوصاً بعد أن عادت مصر راسمة للمسارات لا مجرد اسم وصوت في الجامعة العربية.
يبقى أخيراً أن التجربة التركية أصبحت مثالاً للعديد من ثورات الربيع العربية. تركيا التي ستنتخب مجلساً نيابياً جديداً يوم غد الأحد، تتجه بفعل الرياح الأردوغانية نحو نظام أكثر ليبرالية رغم الهوية السياسية الإسلامية لـالأردوغانية نفسها. وما هذا التحول إلا لكي يحصن رجب طيب أردوغان تركيا أمام كل الرياح الساخنة التي تهب في منطقة الشرق الأوسط. ولا يمنعه التزامه السياسي الإسلامي، من الدخول في هذا المسار لأن مصلحة تركيا تتقدم على مصالح الأفراد والأحزاب. هذا هو المفعول الأول لوجود الدولة والشعور المُلزم بالانتماء إليها.
من حق حزب الله الالتزام بولاية الفقيه وما تفعله الجمهورية الإسلامية في إيران، ولكن أيضاً من حق لبنان عليه وهو في النهاية أرضه ومصيره أن يكون أكثر واقعية وأن يساهم وحتى أن يبادر في تحصين لبنان، بالعودة إلى الوفاق والوحدة الوطنية على قياس لبنان لا أكثر ولا أقل.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.