انتخاب أمين معلوف عضواً في الأكاديمية الفرنسية، هدية ثمينة ومفرحة في هذا الزمن الصعب الفقير والحزين. انضمام معلوف الكاتب ـ الصحافي الى هذا الهيكل الفرنسي ـ العالمي، يشكل شهادة تقدير مزدوجة، واحدة لأمين معلوف، والثانية الى لبنان الجسر بين الحضارات.
ليس أمراً عادياً انتخاب كاتب فرنسي للأكاديمية فكيف بكاتب لم يتنكر لهويته اللبنانية يوماً، بل انه أصر عليها وعلى انتمائه الكامل للبنان الحضاري والغني والمعطاء. لا شك أنه يحق لأمين معلوف أن يفخر بانتخابه، كما أنه من واجب كل لبناني، وأيضاً كل عربي معني بالثقافة العالمية أن يفخر ويرحب بهذا الحدث الاستثنائي.
أيضاً لا شك أن أعضاء الأكاديمية الفرنسية الذين انتخبوا المعلوف من الدورة الأولى، يستحقون تحية خاصة لانهم أكدوا بذلك أن المهم بالنسبة لهم الإنتاج لا الشخص. العطاء هو الهوية وليس المكان.
ليس أمين معلوف الأول ولا الأخير الذي يدخل تاريخ الثقافة العالمية وان كان هو انفرد بدخول هيكل الثقافة الفرنسية من أوسع أبوابه. لبنان الجسر بين الحضارات غني وأغنى دائماً العالم. هذا هو لبنان الذي يريده كل اللبنانيين الذين يعشقون بلدهم وليس اللبنانيين بالهوية الذين لكل واحد منهم بابٌ عالٍ لا يسمع ولا ينفذ غير أوامره. هذا هو لبنان المنفتح على كل الحضارات والثقافات، لا لبنان الذي يمنع فيلماً لانه لا يناسب دولة أو أخرى.
لبنان أعطى الكثير للحضارة الإنسانية، منذ تأسيسه على يد الفينيقيين. مشكلة الحضارة الفينيقية المؤسسة للحضارات، أنها لم تستطع أن تقيم مملكة، بقيت هذه الحضارة أسيرة لمدن قريبة لا بل متداخلة جغرافياً مثل صور وصيدا، ولم تنجح في ان تتوحد. فضّلت أن تبقى كل مدينة ـ دولة حسب القاموس الحديث، لذلك اندثرت هذه المدن ـ الدول، ولم يبق منها سوى ذكريات وأثار متفرقة وموزعة على بعض مواقع حوض البحر الأبيض المتوسط. رغم كل الغنى الذي أتقنوه وأعطوه لم يبق منه إلا بعض القطع الموزعة على دول معدودة تعتبره كنوزاً لا يمكن التخلي عنها.
ربما كان الفينيقيون أول من عرفوا العولمة ومارسوها دون ان يعوا ما هي. كان الفراعنة وملوك ابيتزا وغيرها في حوض البحر المتوسط يوصون على التحف والفنانين والعمال المهرة والمدن، الدول الفينيقية تقوم بالباقي.
لبنان اليوم أشبه بفينيقيا قبل ستة آلاف سنة، يعطي أمين معلوف للثقافة الفرنسية، ويصر على بقاء وتثبيت المدن ـ الدول، وفي أفضل الأحوال الجهات ـ الدول. ما الذي يجمع اليوم الشمال بالجنوب والبقاع بالجبل وبيروت بالضاحية وصور بطرابلس؟ لا شيء غير الهوية. الباقي مجموعات متنافسة ومتصارعة لحساب الآخرين. اللبنانيون كأفراد من أنجح الأفراد في العالم، أما اللبنانيون كشعب فإنهم أفشل الشعوب. بعد كل الحروب الأهلية التي بدأت تاريخياً عام 1860 حتى اليوم، بقي انتماء اللبنانيين مشدوداً الى الخارج، لذلك نجح كل العابرين على الجسر اللبناني، في الإمساك بكل شيء من تعيين المختار الى رسم المسارات والعمل على تنفيذها بدقة.
حالياً، يومياً في سوريا مظاهرات شعبية ومواجهات وقمع وشهداء وجرحى؛ بدل ان تتعاون المدن ـ الدول المنتشرة على مساحة الخريطة الرسمية للبنان لمواجهة استحقاقات المرحلة التي لم يتشكل أفقها ولا نهايتها، يتقاتل الجميع ضد الجميع. الملتزمون بالنظام السوري يدافعون عنه وكأن ما يدور فيه هو نهاية العالم، المعارضون للنظام السوري يشاركون المتظاهرين والمحتجين السوريين وكأن صناعة التاريخ قد بدأت عندهم وليس في سوريا. هذا الحماس المزدوج والمتعارض طبيعي جداً، خصوصاً وأن التداخل الجغرافي والاجتماعي والثقافي والتاريخي متلاحم بعمق. الغريب في كل ذلك أن تتحول كل مدينة ـ دولة في لبنان الى ساحة للحرب ضد المدينة ـ الدولة الأخرى، حول ما يجري في سوريا، على حساب بقائهم وبقاء هذه الدولة التي تجمعهم بالهوية وليس بالانتماء الوطني.
وصل الأمر في بعض الأحيان، الى أن الملتحين من المتطرفين في الشمال يزايدون على السوريين الذين بلغوا حداً من الشجاعة والوطنية والتضحية تسجل لهم الى الأبد. بدلاً من احتضان هذه الشجاعة وهذه الوطنية والتعلم منها يتم القفز فوقها.
أما الملتحون الملتزمون في الجنوب، فإن حماسهم والتزامهم بالنظام السوري وصل الى درجة السؤال الخطر والخطير، وهو: إذا اقتضى الوضع والتطورات هل ندخل في حرب ضد إسرائيل لإنقاذ النظام الممانع والمقاوم في سوريا؟.
ليس بعد هذا الجنون المزدوج، جنون. مهما بلغ حب الأخ لأخيه، هل يمكن التصور بأن يقدم أحدهما على الانتحار الجماعي مع عائلته، فقط حتى يبقى شقيقه مقيماً في الشقة الفاخرة التي يسكنها ويطالبه صاحبها بتركها له لأنها حق من حقوقه الشرعية.؟
لو كان الأمر غير ذلك لهانت كل الحروب وكل العمليات الاستشهادية أو الانتحارية، أما أن يصل الأمر الى هذه الدرجة من الجنون، فهذا لم يعد مقبولاً. المقاومة وجدت لتبقى ضد العدو الصهيوني ولتحرير الأرض فقط لا غير.
اللبنانيون، مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يتركوا الشعب السوري يصنع مصيره بيديه وان يتعلموا منه حب الوطن وليس القرية والحارة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.