الصدفة تصنع أحياناً العجائب. في بعض الحالات تؤشر الى مسارات بعضها تاريخي. الصدفة جمعت بين العقيد معمر القذافي المهزوم، والرئيس بشار الأسد المقاوم. في الوقت الذي كان فيه ثوار 17 فبراير يحررون طرابلس ويطلقون سراح آلاف السجناء السياسيين الذين طالما أنكر القذافي وجودهم، ويتهاوى فيه نظام القذافي العجيب مثل منزل من كرتون، كان الرئيس بشار الأسد يخاطب السوريين والعالم وكأنه خارج الزمان والمكان. دائماً جاءت خطابات الرؤساء الذين هبت عليهم رياح الربيع العربي متأخرة جداً. الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك أكبر مثال على هذه الطلات المتأخرة.
الرئيس بشار الأسد أطل عبر شاشة التلفزيون السوري الرسمي، في لقاء معد بعناية. الأسئلة فيه مصاغة بدقة، أما المذيعان ـ أعانهما الله على مهمتهما ـ فإنهما كانا يعرفان جيداً في حضرة مَن يقفان ومتى يتوقفان.
ما قاله الأسد طوال 45 دقيقة، كان من الممكن قبوله من شرائح واسعة من المجتمع السوري، لو قاله أمام مجلس الشعب قبل أربعة أشهر. يومذاك لم يكن السوريون يطالبون بأكثر من الإصلاحات المعقولة والقبض على مجرمي درعا. لم يقل الأسد شيئاً لأنه انتشى بالمظاهرة المليونية. اليوم بعد آلاف الضحايا والجرحى والمعتقلين، لم يعد مقبولاً أقل من التغيير الشامل.
النظام الأسدي، انتهى حتى ولو بقي الأسد وحده، رمزاً إجبارياً للتركيبة المعتمدة حالياً في سوريا.
لو اجتمع كل دهاقنة السياسة والقانون لن ينجحوا في شيء. عندما يدخل مريض حالة الوفاة السريرية يصبح من شبه المستحيل إنقاذه.
الرئيس بشار الأسد تحدث عن كل شيء ولا شيء. المعارضة غير موجودة. الحوار مع الشباب والمحافظات. أما قوى المعارضة أو على الأقل التنسيقيات التي تجمع شباب الأحياء فهي مجهولة لغة وفعلاً. الوضع الأمني مستقر. الدبابات التي تتجول من مدينة الى أخرى ومن محافظة الى أخرى ليست أكثر من مراسيل للاطمئنان على أمن وصحة المواطنين. الدليل أن الاقتصاد في القمة، والسائحين يتدفقون من كل حدب وصوب الى درجة أن رجال الأعمال يتسابقون لشراء وحتى بناء فنادق تحول دون اختلاط السياح بالمتظاهرين في الشوارع.
ليس هذا الهدوء الخادع الذي لا يخدع حتى تلامذة المدارس الابتدائية هو كل شيء. في مواجهة العالم الذي لم يعد يتحمل الجرائم ضد الإنسانية التي تقع يومياً في أرجاء سوريا، يملك النظام الأسدي أسلحة خفية. النظام الأسدي يريد استقدام الحلف الأطلسي بالقوة الى سوريا لتأديبه والثأر للعقيد معمر القذافي الذي فشل في المهمة. في يد هذا النظام مفتاح الحرب والسلام مع إسرائيل. يستطيع الأسد إشعال الحرب مع إسرائيل. لكن يبدو أن الأخيرة مطمئنة جداً الى عدم إقدامه على هكذا قرار لذلك اكتفت بالرد على غزة التي لم تحظ بكلمة عطف أو تعاطف معها.
الليبيون وقبلهم العراقيون، ليسوا مجرمين ولا خونة لأنهم تخلصوا من معمر القذافي وصدام حسين، على دبابة أميركية وطائرة أطلسية. المجرم هو الذي خيّر الشعبين العراقي والليبي بين الموت والموت. في لحظة معينة لا يعود أمام المقهور سوى الاستعانة بالشيطان لإنقاذه من الجلاد القاهر. السوريون ومعهم العرب لا يريدون أن تتطور الأوضاع في سوريا الى درجة الاستعانة بالأطلسي ولا بغيره. لكن أيضاً يتمنون أخذ العبرة من تونس ومصر وليبيا وغداً اليمن. من الأفضل سماع صوت الشعب بدلاً من هدير الدبابات سواء كانت من الداخل أو من الخارج.
منذ النكبة في فلسطين، والأنظمة العربية التي تغيرت على وقع البلاغ رقم واحد تعد بالتحرير، تحرير فلسطين والمواطن العربي. لم يحصل هذا ولا ذاك. بالعكس تحرير فلسطين ابتعد أكثر فأكثر والمواطن العربي أصبح أسيراً بلا كرامة لدى الأنظمة. المصريون والتوانسة لم يثوروا من أجل فلسطين، إنما ثاروا لأجل كرامتهم. استعادتهم لكرامتهم المفقودة تعيدهم اليوم الى فلسطين. في القاهرة، رفرف العلم الإسرائيلي منذ اتفاقية كامب دايفيد. بقي السلام بارداً، لأن الشعب المصري لم يقبله. اليوم أكد المواطن المصري العادي أنه مع استعادته لكرامته يستطيع أن ينجد فلسطين. لا يمكن تحرير فلسطين قبل تحرير العربي وشعوره بكرامته وسيادته في وطنه. صحيح أن الخبز أولاً. لكن الخبز بلا كرامة مرّ.
دقت أجراس العودة، بعد أن عرفت الشعوب العربية طريقها نحو الحرية والكرامة.
اليوم معمر القذافي وغداً علي عبدالله صالح. ورياح الربيع العربي عاصفة.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.