الربيع العربي، حدث حجب كل الأحداث. من الطبيعي أن يؤخذ العربي بيوميات هذا الربيع الدامي.
لم يعرف العربي الثورات الشعبية، في تاريخه القديم والحديث. الثورات ضد الاستعمار تبقى نوعاً من الواجب الوطني الذي تنتهي مفاعيله مع اندحار المستعمر وقيام دولة الاستقلال التي هي قضية أخرى. الثورات مسألة أخرى شروطها ومفاعيلها وتردداتها ونتائجها مختلفة جداً، المفاجآت كثيرة، والقدرة على استيعابها محدودة. تدفع أحياناً الى الاحباط. ماذا بعد الآن، هو السؤال الطاغي السؤال الأكثر حضوراً: من هو البديل؟ الأنظمة العربية الطاغية صحرت الحياة السياسية العربية الى درجة أن البديل غير موجود، أخطر من ذلك جعلت الشعوب أمام معادلة نار جهنم أخف من نارها وهي: إما ديمومة النظام أو الحروب الأهلية.
من الطبيعي إذاً أن يمر حدث بسيط مثل انتخاب فرنسوا هولند مرشحاً عن الحزب الاشتراكي الفرنسي للانتخابات الرئاسية، وكأنه حدث فرنسي داخلي لا يعني العرب، ولا ينتج عنه أكثر من ابتسامة وتعليق من عربي نوع: هنيئاً لهم ليس لديهم هموم المستقبل.
في الواقع انتخاب فرنسوا هولند يجب أن يعني كل عربي وكل لبناني. انه حدث خارج من قلب العالم الجديد الذي بدأت ولادته مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة وولادة العولمة ونشوب الحرب العالمية الثالثة ضد الارهاب.
مفاعيل هذا التغيير لم تحصل دفعة واحدة. الربيع العربي، جزء منها، قد يكون متأخراً في الزمن لكنه فعلياً منه. حيثيات انتخاب فرنسوا هولند تؤكد على هذه المفاعيل أو الولادات الجديدة.
الحزب الاشتراكي الفرنسي تغير كثيراً، وبالأحرى تطور جدياً. يمكن أن يقال إنه أقرب الى الديموقراطي ـ الاجتماعي. لم يعثر منذ عشر سنوات على خطاب جامع، ولا حصل على شخصية قيادية تجعل الآخرين وراءه، يعملون للحزب عبره، لذلك اختار الاشتراكيون أكثر وسائل الديموقراطية ديموقراطية وهي صندوق الاقتراع لاختيار المرشح. فتح الاقتراع أمام جميع الاشتراكيين وكل اليسار. يمكن القول أن شعب اليسار هو الذي اختار فرنسوا هولند مرشحاً عنه لرئاسة الجمهورية ضد الرئيس المرشح نيكولا ساركوزي. شعب اليسار جمع الاشتراكيين مع الشيوعيين والخضر. بهذا المعنى ينطلق هولند في رحلته نحو الاليزيه مرتكزاً على أكثر من مليوني ناخب.
لماذا إذن انتخاب هولند حدث عربي، طالما ان المسألة فرنسية داخلية الى هذا الحد. شخصية هولند تؤشر الى التحولات التي تجتاح العالم. فرنسا شكلت دائماً مصنعاً للأفكار والأحداث.الجمهورية الخامسة التي ولدت على يد الجنرال ديغول وثورة 1968 الطلابية، ووضعها الشمع الأحمر على نزعة القومية الفرنسية لمصلحة ولادة الاتحاد الأوروبي، كل ذلك شكل وما زال مثالاً ليس للأوروبيين فقط وانما للعالم. هولند الذي قد ينتخب بقوة في أيار من العام القادم رئيساً لفرنسا، شخصية مثقفة ولكنها عادية. لم يعين يوماً وزيراً، رغم أنه تولى زعامة الحزب الاشتراكي. يقول عن نفسه: لست جديداً لكنني متجدد. يقول الآخرون عنه إنه يطفو ولا يغرق.
مع انتخاب فرنسوا هولند مرشحاً للانتخابات الرئاسية، اختار الفرنسيون واحداً منهم.
انتهى الزمن الذي يتم فيه البحث عن قائد بحجم الجنرال ديغول، حتى لو عاد وديغول فإن حبه واحترامه لن يمنع الفرنسيين من القول له شكراً لم تعد تناسبنا. حان الوقت لكي نحمل همومنا بيدنا ونعالجها بما استطعنا. زمن القائد التاريخي انتهى. أيضاً لم يعد الفرنسيون يتحملون الرئيس ـ الملك مثل فرنسوا ميتران. اعترف هولند الذي عمل معه سنة واحدة في الاليزيه. أنه لم يحب يوماً فرنسوا ميتران. مثل هذا الإعلان كان يشكل عند الاشتراكيين حكماً بالاعدام السياسي. الآن هذا الاعتراف فتح أمام هولند منافذ على شعب اليسار لم تكن موجودة من قبل.
ايضاً مهم جداً، أن هولند ليس مرهوناً بفوزه للوبي اليهودي داخل الحزب الاشتراكي، الفيلة اليهود كانوا مع ستراوس. كان الذي خذلهم، قفز واحد منهم وهو بيار موسكوفتشي الى دائرته ليحصل على موقع له بعد خروج معلمه ستراوس ـ كان هذه حالة فريدة في الحزب الاشتراكي الفرنسي ـ يستطيع العرب استثمارها لو أحسنوا العمل معه مستقبلاً.
يبقى ماذا يعني العرب من كل هذا الحدث؟ يستطيع العرب اليوم وغداً أن يردوا على السؤال الكبير حول من هو البديل؟ وانهم لا يريدون قائداً ولو كان بحجم جمال عبد الناصر. ولا رئيساً قائداً من نوع صدام حسين وحافظ الأسد. حتى ولو ظهر واحد منهم، فإنه يمكن القول لهم انكم من الماضي، نحن المستقبل. ايضاً لم يعد ممكناً القبول برئيس يرث السلطة ويتعامل معها وكأنها حق شرعي له بكل متفرعاتها من الأرض الى الناس. ولا برئيس يعتقد انه باقٍ الى الأبد لأنه هو أو الحرب الأهلية.
البديل واضح القبول بنتائج صناديق الاقتراع والمداورة بالسلطة، ورؤساء جمهوريات وأحزاب يسمعون ويستوعبون ما يسمعون من الشعب ويبتكرون اجابات تتماشى مع الواقع وأيضاً مع الطموحات الشعبية.
وداعاً للقادة، أهلاً بالرؤساء الخارجين من صناديق الاقتراع مباشرة. هذا هو البديل!
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.