تعدّدت التفسيرات لاستخدام روسيا الفيتو لإحباط المشروع العربي الغربي في مجلس الأمن الدولي، والنتيجة واحدة. يشكّل الفيتو، مظلة حماية، يمارس الرئيس بشار الأسد ومعه كامل النظام الأسدي، المذبحة ضدّ المدنيين والديموقراطية والحرّيات. ليس في هذا إدانة للموقف الروسي، لأنّ موسكو أدانت نفسها ومعها بكين، أمام كامل الشعوب العربية والشعوب في العالم المنخرطة والملتزمة والطامحة لرؤية الشعب السوري وشعوب المنطقة حرّة وآمنة لا يخاف فيها المواطن من التحوُّل إلى رقم في المعتقلات لسنوات طويلة.
أسديون التقوا الرئيس بشار الأسد قبل الفيتو الروسي، سمعوا منه ما يؤكد انّ خياره هو الحل الأمني مهما كانت كلفته لأنّه برأيه أقل من كلفة استمرار الوضع على ما هو عليه من عشرة أشهر. الأسد يضيف كما نقل الأسديون عنه: لقد أخّرت الحسم العسكري بناء لنصيحة من الروس حتى يستطيعوا المواجهة من منطلق مواجهتنا للمجموعات المسلحة الإرهابية. والدي الرئيس حافظ الأسد لم ينهِ الأخوان المسلمين ويقضي عليهم في حماه وحدها، أمضى أربع سنوات كاملة حتى صفَّاهم وانتصر. أنا سأنتهي منهم هذه المرّة في سنة كاملة، كل مسلح هو مشروع قتيل شرعي، حتى الآن مضت عشرة أشهر، باقي شهران في أقصى الحالات.
الرئيس الأسد، يعد الأسديين، بأنّه في آذار المقبل يكون قد صفَّى حساباته مع الإخوان المسلمين، وكأنّ المعارضة المستمرة والمتزايدة هي معهم فقط وليس مع شرائح واسعة على امتداد الوطن السوري، نجحت حتى الآن في التحكم بأكثر من نصفه. من الممكن استيعاب إصرار الأسد على الحسم، لأنه يخوض ونظامه معركة من أجل البقاء. أي نظام ديكتاتوري في العالم، يخوض مثل هذه الحرب، وقد أكد الربيع العربي صحّة هذه القاعدة الكارثة خصوصاً في ليبيا مع العقيد معمر القذافي. لكن ماذا عن الروس؟ لماذا يخوض فلاديمير بوتين وهو على أبواب العودة إلى الكرملين حرباً باردة ضدّ الغرب في سوريا؟ وهل الرئيس بشار الأسد ونظامه يستحقان هذا الاستبسال في الدفاع عنه؟ هل هذا الموقف مرتبط بالأسد أم بسوريا؟ ولماذا؟
لم يمضِ يوم إلا والدب الروسي يحلم ويعمل للسباحة في حوض البحر الأبيض المتوسط. دفء هذه المنطقة وحرارتها يجذبانه. الشرق الأوسط كان وما زال في غاية الأهمية للمصالح الروسية الجيو سياسية والاقتصادية. فلاديمير بوتين القيصر الجديد في الكرملين يعتقد ان الشرق الأوسط يشكّل ساحة يمكن من خلالها استخدام مجموعة من الأدوات، للتأثير في التطورات الاقليمية وبالتالي العودة إلى الشراكة الكاملة مع الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية في صناعة القرارات الدولية. باختصار القيصر الجديد يحلم ويريد أن يكون شريكاً في صناعة نظام دولي جديد يعتقد أن ساعته قد دقّت. ضمن هذه الرؤية فإنّ المحور السوري الإيراني هو عامل مهم في إرساء ثقل موازن في مواجهة واشنطن وحلفائها. ما يجعله مطمئناً إلى إمكانية نجاحه أن بكين تسانده بقوّة، لأنّ شراهة التنين الصيني للمواد الأولية خصوصاً النفطية منها غير محدودة.
سوريا ليست طارئة على حسابات موسكو الاستراتيجية. سبق لموسكو عام 2005 عندما تم عزل دمشق، أن فتحت ذراعيها لها، فأعفتها من 75 في المئة من ديونها المستحقة لها البالغة 13,5 مليار دولار. معظم هذه الديون ثمنٌ للأسلحة. من المؤكد ان سوريا مستهلك أساسي للسلاح الروسي. إلى ذلك، فإنّ التعاون العسكري الذي يتجسّد بقاعدة طرطوس البحرية تعطيه أبعاد شراكة استراتيجية مهمة جداً لموسكو.
طبعاً الخوف من سقوط النظام الأسدي حقيقي بالنسبة لموسكو، رغم ذلك لا يمكن لدولة مثل روسيا أن تأسر نفسها في خيار واحد. من الطبيعي والضروري أن يكون لديها خطة ب وحتى ج لمعالجة المستقبل. لذلك إذا وُضعت موسكو أمام خسارة كل شيء أو خسارة الأسد فإنّها لا شك ستفضّل الحل الثاني، خصوصاً إذا ما رافق ذلك تفاهمات واسعة مع واشنطن تتناول مستقبل الدرع الصاروخية في تركيا وأوروبا الشرقية. موسكو لا تريد خوض سباق تسلح جديد يحول بينها وبين التقديمات الحياتية للروس. الزمن تغيّر، لا يمكن إقناع الروس اليوم بالصعود إلى القمر وصناعة صواريخ عابرة للقارات وهم بحاجة الى مدفأة تقيهم صقيع الشتاء السيبيري وبرّاد يحتاجونه. موسكو أقامت في العقدين الماضيين علاقات مفتوحة مع كل الفاعلين في المنطقة كي تحفظ لنفسها مكاناً ومكانة، من الصعب جداً أن تتخلى إلى الأبد عن كل هؤلاء الفاعلين من أجل بقاء رئيس إلى الأبد. المهم في السياسات المحافظة على المصالح قبل الأشخاص. متى توفّر لموسكو الحل الذي يقيها ما تسمّيه خيانة القرار 1973 المتعلق بليبيا لها ولموقعها، يمكن أن تسير في حل آخر.
لن يستطيع فلاديمير بوتين إنقاذ النظام الأسدي حتى ولو استخدم حق الفيتو مرّة أخرى، وحتى لو ملأ ساحات دمشق بالخبراء الروس. لم يعد ممكناً إنقاذ حطام النظام الأسدي. جمع شظايا نظام لا تصنع نظاماً، تماماً مثل اللوحة التي بعد أن تُمزَّق لا يمكن مهما بلغت براعة الخبراء في استعادتها.
حان الوقت لموسكو أن تفكر بخطة ب لمواجهة الواقع، وحان للغرب والعرب والمعارضة السورية أن يساهموا، رغم كل المرارة من استخدام موسكو الفيتو، في وضع خيارات أخرى وعديدة أمامها. مرة أخرى هذا العالم قائم على تبادل المصالح، وهي ضخمة في الشرق الأوسط.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.