أن يُصاب الرئيس بشار الأسد بجنون العظمة، أمر طبيعي وهو طبيب العيون الذي أكمل دراسته قبل أن يبدأها، وأصبح عقيداً في الجيش قبل أن يدخل المدرسة الحربية، وورث سوريا عن والده الرئيس حافظ الأسد، دولة مركزية ترنّ فيها الإبرة في عزّ النهار، واستطاع أن يردّ كولن باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق خائباً، ويبقى على موقفه الممانِع والرافض للتنازلات، وأن يكسر العزلة الدولية التي فُرضت عليه، ويأخذ مكاناً عالياً في المجتمع الدولي وفي عملية رسم مستقبل حوض البحر الأبيض المتوسط، وأن يطوَّب بين ليلة وضحاها قائداً للمقاومة والممانعة، وهو الذي لم يطلق رصاصة واحدة، تماماً على خطى والده، أمام الجولان المحتل، وصمد سنة كاملة في وجه معارضة شعبية معمَّدة بالنار والدماء تضم بأقل تقدير أكثر من نصف الشعب السوري، وأن يُشعل الحرب الباردة التي وُئدت قبل عقدين من الزمن، وأخيراً لا آخراً يقدّم دستوراً جديداً ليس فيه من جديد سوى إلغاء المادة الثامنة المتعلقة بحزب البعث، الذي لم يكن موجوداً إلاّ نصّاً. بعد كل هذه الإنجازات، أليس من الطبيعي أن يُصاب شخص مثل الرئيس بشار الأسد بما أُصيب به قبله كل الديكتاتوريين؟
أكثر من ذلك، بعد فشل مؤتمر تونس وتصريحات هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية الباحثة عن دور لها وهي على أبواب التقاعد، عن دور القاعدة وجدوى تسليح المعارضة إذا كانت ستعود الأسلحة إلى القاعدة وحماس (لم يفهم أحد ما علاقة حماس بأسلحة المعارضة السورية وهي التي خرجت من دمشق حتى تنأى بنفسها عن الانخراط في مستنقع الدم السوري)، هل يمكن التساؤل كما يُشيع الأسديون ما إذا كان الأسد قد استعاد زمام المبادرة؟
خصوصية موقع سوريا الجيوسياسي من جهة، وطبيعة النظام الأسدي من جهة أخرى، تطيلان زمن التضحيات، تماماً كما حصل مع النظام الصدامي في العراق. لذلك من الخطأ القاتل استعجال النهاية مهما كانت الحالة استثنائية. الواقعية السياسية تتطلب التعامل في المواجهة ومع الثورة بكثير من الصبر وعدم الإحباط، حتى ولو نجح الأسد في استعادة زمام المبادرة جدّياً. الثورة في سوريا تمر منذ بداياتها في نفق طويل ومظلم ومليء بالألغام. أي صورة أخرى للوضع يُعمل بها تنتج الإحباط عند أول انهيار أو انفجار لغم.
تردُّد الولايات المتحدة الأميركية في التعامل مع الأزمة السورية، حقيقي. الإرباك الأميركي لا ريب فيه، والإرباك في المواقف المعلنة صدى للأولى. في كل هذه السياسة الأميركية التي لا تريد الحسم حالياً يجب التفتيش عن أمرين:
* إسرائيل أولاً. ذلك أنّ الموقف الإسرائيلي يعتمد الغموض السلبي. بعد سنة تقريباً على الثورة في سوريا، الانقسام علني بين أركان السلطة. الأهم بين هؤلاء وهو بنيامين نتنياهو لا يريد حتى الآن سقوط النظام الأسدي بحجّة أنّه يخاف من البديل الذي لا يعرفه؛ على الأقل يعرف الأسد الابن وقبله الأسد الأب، كلمتهما كلمة، الدليل سكون الجولان الدائم، حتى الآن اللوبي اليهودي في واشنطن يلتزم الصمت. ايباك لم تصدر موقفاً حول سوريا رغم مركزيتها في أزمة الشرق الأوسط.
* الرئيس باراك اوباما يراعي الوضع لإنه على موعد مع الإنتخابات الرئاسية. خير الكلام ما قلّ دون أن يدلّ. ليس للولايات المتحدة الأميركية مصالح مباشرة نفطية مهددة في سوريا مثل ليبيا. هل يعني ذلك انتظار ثمانية أشهر أو أكثر حتى يكون لواشنطن موقف حاسم من الأزمة السورية عدا ترداد جملة واحدة عن ضرورة تنحِّي الرئيس بشار الأسد دون تحديد كيف وأين ومتى وكلفة هذا التنحِّي؟
في جميع الأحوال، تبدو واشنطن على ثقة بأنّ الأسد سيسقط. لذلك تعتبر الوقت حليفاً ثميناً وفاعلاً ومؤثراً إلى جانبها. الدليل ان الوضع حالياً في سوريا ليس كما كان قبل أشهر قليلة. المدن تتفكك من حول النظام. دمشق يتم قضمها شعبياً وهضمها ولو ببطء، أيضاً حلب. الجيش لم يتفكك، لكن الأمن كله من شرطة وأمن داخلي وجمارك وغيرها تفككت ولم تعد عاملة، الليرة السورية تتراجع والاقتصاد يتدهور. مجتمع جديد يقوم في سوريا، انه مجتمع الأزمة تماماً كما حصل في لبنان في حرب السنتين. كل يوم جديد يعمّق الشروخ التي بدأت تظهر على السطح السوري. واشنطن تكسب على جميع الجبهات. سوريا ليست، مهما كانت أهميتها، أكثر من حلقة في محور الممانعة. خروج حماس من دمشق خبر جيد لها، مهما كان ذلك قاسياً في الوقت الحالي. سوريا ضعيفة وغارقة في وحول حرب تثير الاشمئزاز لأنها حرب السلطة ضدّ الشعب. من النادر أن يستخدم نظام ما المدفعية ضدّ شعبه. هذا ما يحصل في سوريا. لذلك تريد واشنطن ترك الوضع السوري ينضج على النار السورية.
يبقى الموقف العربي؛ بدايته من خرق السعودية للسقف الأميركي في تونس. حجم المآسي في سوريا لم يعد يترك للصمت مجالاً. في البداية أراد الأميركيون والفرنسيون والأتراك أن يشكّل الموقف العربي الحاسم والمباشر رافعة لموقفهم. عندما تشكّل هذا الموقف تراجعوا. الآن يجب أن يأخذ العرب موقفاً موحداً يكون جرّافة ترسم مسارات المواجهة والحل في سوريا. أي تراجع عربي، أو حتى تباطؤ هو مشاركة في الجريمة التي تنفذ ضدّ الشعب السوري.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.