باريس، عاصمة المعارضات السورية. القوى السورية كلها مجتمعة ومتفرقة ومختصمة فيها حتى العظم. سنة كاملة من الثورة والتضحيات والشجاعة غير المسبوقة على مساحة سوريا، وخلافات شخصية أكثر مما هي فكرية أو سياسية في منافي المعارضات السورية. لم يكن أحد مستعداً للثورة أو لقيادتها. المفاجأة جاءت كبيرة جداً. يحتاج الكثيرون من هذه المعارضات إلى الوقت، ليستوعبوا ويعملوا بقواعد وشروط وواجبات الحالة الثورية. دون الدخول في التسميات، لأنّ الكلام يكون أكثر شفافية وصدقاً، فإنّ إجماعاً يبدو قائماً بين القيادات الوطنية البريئة أحياناً، بأن المشكلة الأساسية تكمن في الطارئين على المعارضة الذين يتقاتلون على حصصهم من جلد دب النظام وهو الذي لم يتم اصطياده بعد!
وحدة المعارضات يجب أن تتم. العمل على توحيدها قائم. على الأقل ولو على أرضية من التفاهمات المبدئية، وترك الخلافات الأخرى إلى ما بعد. مثال المعارضات العراقية قائم. توحيدها رغم ان خلافاتها أعمق وأكثر حدة لأن في صلب كل ذلك كانت نزاعات فكرية وحزبية وحتى عائلية قديمة جداً. مؤتمر اسطنبول سيدفع خطوة إلى الأمام بهذا الاتجاه. لكن الطريق ما زالت أيضاً طويلة.
بعيداً عن مأساة الانقسامات فإنّ نقطة الانطلاق موجودة وهي: أن الاب أي حافظ الأسد قتل بالجملة، في حين ان الابن بشار الأسد يقتل بالمفرّق وجمرة بعد جمرة. الأحداث حسب هذه القيادات تدمي القلب. من ذلك: ان نصف مليون سوري مروا خلال السنة الأولى للثورة في المعتقلات والتحقيقات والتعذيب وانتهاك الكرامات. وان مئة ألف ما زالوا قابعين في دهاليز المخابرات القديمة والمستحدثة. وان حوالى أربعين ألفاً هم من المفقودين ومطلوب كشف مصيرهم الآن أو غداً. ان شباب التنسيقيات من الجيل الأول عادوا إلى أهلهم جثثاً من اللحم المشوي الذين لم يتم التعرّف على هوياتهم إلا من علامات لا يعرفها إلا الأهل المفجوعون.
تستنكر قوى دولية على رأسها روسيا والصين مسار عسكرة الثورة. يردّ المعارضون أنفسهم: في الهجمة الأولى على درعا التي خرجت تنادي بالإصلاح والسلمية سقط 1700 ضحية. كان الأمن والشبيحة وكتائب الأسد يطلقون النار، والإسرائيليون يراقبون المشهد بمناظيرهم. النظام عمل كل ما يمكنه من قتل وترويع واعتقالات لدفع الناس إلى اليأس من السلمية والانزلاق نحو السلاح. الآن وصل الوضع انه اذا فشلت مهمة كوفي أنان وبدأت مرحلة تدفق السلاح، فإنّ مليون سوري سيحملون السلاح ليس فقط إيماناً منهم بالثورة وإنما ثأر للظلم الذي لحق بهم ودفاعاً عن أعراضهم وممتلكاتهم. هذا النظام الذي بنى سلطته على الأمن والقمع والرعب، نسي أو تناسى أن أبناء العشائر والأرياف ممنوع عليهم منذ ولادتهم ذرف الدموع، وأنّ الصفعة التي يتلقاها طفل يافع ترنّ على ألف وجه من الأحفاد وأبناء العمومة، فكيف بالموت تحت التعذيب؟
إيمان قوي يسود كل المعارضات رغم عيوب انقساماتها: ان الشعب السوري فاجأ الجميع حتى نفسَه. وان الشعب السوري لن يهزم. صحيح ان مرحلة جديدة قد بدأت من الثورة، وان الكلفة الى ازدياد، إلا أن هذا الشعب لن يهزم لأن روح الثورة وكراهية النظام ورفضه تتعمقان فيه. ما يساعد الشعب السوري على الأمل، ان هكذا نظام يهدّد النظام الدولي كله وليس الشعب فقط. أخطر من ذلك أن الاسد أقحم سوريا في مواجهة اقليمية ـ دولية. بقاؤه وهزيمة الثورة تعني انتصار المحور الروسي الصيني الايراني على الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. يمكن التفاهم مع روسيا والصين ولكن غير مقبول التسليم الغربي لايران بالانتصار.
طبعاً، الانتصار ليس وراء الباب. ما زال الوقت يمر ببطء. المشكلة أن الولايات المتحدة الأميركية لم تحسم متى يجب أن ينتهي الوضع، وهي ما زالت ومعها أوروبا تتعامل بنوع من الخبث مع الحالة السورية. تقول قيادات أميركية انها تخاف من القاعدة، وتتناسى انها تعاملت في ليبيا مع أحد قادة القاعدة وهو اليوم يشغل موقعاً عسكرياً مهماً. المشكلة باختصار: إبحث عن موقف اسرائيل من النظام الأسدي.
لا يريد أحد من المعارضة أن تغرق سوريا في تجربتين: الليبية والعراقية. رغم مطالبة بعض الشلبيين (نسبة الى أحمد الشلبي العراقي) من المعارضات السورية التدخل العسكري الأميركي أو الدولي، فإن ذلك لن يتحقق ولا يريده أحد بدءاً من السوريين. هذه الاستحالة تفرض جملة من الوقائع تبدأ من الحاضر لتصل الى المستقبل.
بداية، فإن المعارضات السورية ما عدا الشلبيين منهم، يشدّدون على ضرورة الحفاظ على الدولة والجيش رغم كل المعاناة الدموية اليومية. تجربة العراق يجب ألا تتكرر في سوريا. الجيش السوري يجب أن يبقى وان لا يمزق، وان يعاد تأهيله مستقبلاً ليكون للدولة والشعب. الجيش الحالي مبني على أسس طائفية وأمنية وعدم احتراف إلا وحدات معينة ثابتة الولاء لبيت الأسد. الجيش السوري جيش وطني يجب عدم تمزيقه. يكفي أن أكثر من سبعين ألفا حتى الآن تركوه والتحقوا بعائلاتهم.
أما الدولة السورية القادمة فيجب أن تكون للجميع. لن يتم اجتثاث البعث، وسيكون لهم حق العمل والكلام والمشاركة في الانتخابات. فقط من ارتكب جريمة أو جرماً يحاسب. الحرية يجب ان تبقى مبدأ وليس شعاراً. المثال العراقي قائم في كل ذلك. الهدف الاجماعي للمعارضات الحفاظ على المجتمع الأهلي. هذا الموقف لا يلغي الاعتراف بأنه بعد سقوط النظام الأسدي ستبدأ مرحلة جديدة تحمل كل عيوب الوضع القائم وستكون قاسية، لكن يجب المرور بها وصولاً الى اكتمال مشروع الدولة التي يجب ان يتعلم الجميع مع الوقت والممارسات كيف تتم خدمة الدولة وليس السلطة.
عندما يصل الحديث الى الطوائف ومواقفها خصوصاً المسيحيين منهم وشيوع الخوف على مستقبلهم، فإن تحييد الورقة الطائفية موضع إجماع. وموقف بعض قادة الكنيسة في سوريا ليس هو موقف المسيحيين. بعضهم يدافع عن موقعه وليس عن المسيحيين. المسيحيون جزء من الشعب السوري.
معارض عريق يذهب الى حد القول: لو عاد السيد المسيح اليوم لوقف مع الشعب السوري.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.