أحدث تقدم اليمين المتطرف في فرنسا هزة قوية فيها، وفي كل أوروبا. الفرنسيون والأوروبيون نسوا بسرعة أن جان ماري لوبن والد مارين لوبن، هزم ليونيل جوسبان وقارع الرئيس جاك شيراك في الدورة الثانية، فكان ان اتحدت كل القوى السياسية الفرنسية بما فيها اليسار لإسقاط الفاشية الزاحفة دفاعاً عن الجمهورية. فاز شيراك بأغلبية ساحقة لكن اليمين المتطرف حقق إعلانه الشعبي الأول بأنه قوة سياسية لها حضورها على مساحة فرنسا.
لذا فإن صعود اليمين المتطرف في فرنسا اليوم، وحصول مارين لوبن على أصوات حوالى ستة ملايين ونصف مليون ناخب فرنسي، ليس نتيجة صدفة ولا حتى استثناء.
اليسار الفرنسي، غرق في الهزيمة التي لحقت به مع خروج ليونيل جوسبان. أما اليمين الجمهوري، فقد تابع بكل فروعه مساراته السياسية وكان ما حققه لوبن ضربة حظ استثنائية لن تتكرر، وليس إعلان ولادة يجب التعامل معها بجدية، حتى لا يطغى هذا الوليد على العائلة كلها. الأخطر أن الرئيس نيكولا ساركوزي البارع في استخدام الضد ضد ضده، عمل على تغذية هذا الوليد ـ الغول للتعويض على تراجعه في أوساط اليمين الجمهوري. وقد ذهب المرشح ساركوزي بعيداً في هذه العملية الى درجة تبنيه قضايا تحرّض على العنصرية والتطرف، مثل مسألة اللحم الحلال، والحد من الهجرة غير الشرعية، والتشديد على السيادة الوطنية ضمن الاتحاد الأوروبي. في كل هذه القضايا التي طرحها ساركوزي ـ المرشح لا يمكن أن يربح فيها، لأن اليمين المتطرف أقدر على استثمارها وتنميتها.
يبقى أيضاً، أن تخلي ساركوزي عن خط يمين الوسط، دون أن يقدم حلولاً لمواجهة البطالة والتضخم، أدى الى تراكم رصيد اليمين المتطرف من أصوات عمال فرنسا. النتائج أثبتت أن اغلبية كبيرة من العمال اقترعت لمارين لوبن، في حين أن الشباب صوتوا لفرنسوا هولند ما يعني أنهم يأملون بأن يحمل لهم حلولاً لمواجهة المخاوف والقلق اللذين يعانون منه في حين أن شريحة واسعة من النساء، صوتت لساركوزي، ربما اعجاباً بمغامراته النسائية التي كان أبرزها زواجه من عارضة الأزياء المطربة كارلا بروني. المهم، أن الوليد الذي غذّاه ونمّاه ساركوزي، أطاح به، وهو يستعد لأن يصبح حزب المعارضة الأولى ضد الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولند، اعتماداً منه أن حزب الرئيس UMP الاتحاد من أجل الجمهورية سيتفكك ويتحول الى اتحادات بحاجة الى الترميم وحتى إعادة التركيب والتأهيل.
صعود اليمين المتطرف في فرنسا له خصوصيته، كما لكل يمين متطرف في أنحاء متفرقة من العالم. لكن هذا لا يمنع من الملاحظة، بأن هذا هو حلقة مهمة من نمو وصعود الأصوليات بكل تلاوينها الدينية والسياسية والعرقية والاجتماعية في العالم. ما تشهده دول عربية عاشت وتعيش الربيع العربي يؤكد ذلك. ألم تنتج هذه المجتمعات تقدم الأصوليين على مختلف مشاربهم وألوانهم دفعة واحدة وكأنهم هبطوا بالمظلات وليسوا من قلب هذه المجتمعات؟ حتى في إسرائيل التي كانت تباهي العالم بأنها الدولة الأكثر ديموقراطية، إذ باليمين المتطرف يجتاحها أولاً، وإذ بالأصوليين المتدينين يزحفون بقوة في المجتمع الى درجة تثبيت فصل النساء عن الرجال في حالات وأحوال عديدة؟
يمكن كتابة مجلدات عن صعود الأصولية في العالم، خصوصاً بعد انهيار الايديولوجيات وقيام العولمة وما لحقها من كوارث اقتصادية بسبب الأزمات المالية الدولية. لكن في قلب هذه العودة تقوم فكرة النقاء والصفاء بجميع صورها خصوصاً في وجود عرق متفوق وأعراق متخلّفة. بعض النظريات ترى أيضاً أن الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ساهمت في عملية الدمج داخل المجتمعات في حين أن الثورة الصناعية الثالثة أقامت التواصل بين العوالم لكنها في الوقت نفسه أدت الى انكفاء الفرد فانقطع الجار عن جاره.
أما في المجتمعات التي تعيش صعود الأصوليات الدينية كما في ليبيا ومصر حالياً فإن السلطات السابقة هي المسؤولة عن هذه الحالة التي تخيف وتقلق أكثر مما تطمئن وتعد بالتغيير وصياغة حلول حقيقية وعميقة لكل المشاكل والأزمات التي تواجه أجيالاً قائمة وأخرى لم تولد بعد.
القمع الذي مارسته الأنظمة في مصر وليبيا وسوريا ضد شرائح واسعة من مجتمعاتها صحّرت الحياة السياسية والأخطر أنها دفعت الفرد أولاً وشرائح واسعة من المجتمعات الى الانكفاء، فالانغلاق على نفسها وصولاً الى رفض التمايز والاختلاف.
صعود الأصولية لن يتراجع بسهولة. الممارسة هي التي ستعيدها الى حجمها الطبيعي. كلما عجزت هذه الأصوليات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية عن تقديم الحلول لمجتمعاتها تراجعت وخسرت مواقعها. قد تكون الفترة القادمة صعبة جداً خصوصاً إذا رفضت هذه الأصوليات تحديداً في مجتمعاتنا العربية القبول بالمبدأ الأول للديموقراطية وهو التبادل والتناوب في السلطة.
فشل هذه الأصوليات من فرنسا الى مصر في تقديم الحلول وفي ممارسة السلطة ديموقراطياً في وقت تبدو فيها مجتمعاتنا عطشى لها، لا يكفي لتراجعها.الأساس هو في تقدم القوى المدنية لأخذ مواقعها وترجمة اندفاعها وقوتها في أحزاب وقوى لها برامجها وخططها قادرة على التغيير وتلبية طموحات الشباب. من المهم أن تعرف هذه القوى أن عبور الصحراء هو جسر نحو واحة الديموقراطية، وليس التسليم باستحالة الخروج من الصحراء والتصحّر السياسي.
[email protected]
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.